فصل: تفسير الآية رقم (259)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏258‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ‏}‏ أَلَمْ تَرَ، يَا مُحَمَّدُ، بِقَلْبِكَ‏.‏

“ ‏{‏الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ‏}‏، يَعْنِي الَّذِي خَاصَمَ “ إِبْرَاهِيمَ“، يَعْنِي‏:‏ إِبْرَاهِيمَ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ “ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ“، يَعْنِي بِذَلِكَ‏:‏ حَاجَّهُ فَخَاصَمَهُ فِي رَبِّهِ، لِأَنَّ اللَّهَ آتَاهُ الْمُلْكَ‏.‏

وَهَذَا تَعْجِيبٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنَ الذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ‏.‏ وَلِذَلِكَ أُدْخِلَتْ “ إِلَى “ فِي قَوْلِهِ‏:‏ “أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ“، وَكَذَلِكَ تَفْعَلُ الْعَرَبُ إِذَا أَرَادَتِ التَّعْجِيبَ مِنْ رَجُلٍ فِي بَعْضِ مَا أَنْكَرَتْ مِنْ فِعْلِهِ، قَالُوا‏:‏ “مَا تَرَى إِلَى هَذَا“‏؟‏‏!‏ وَالْمَعْنَى‏:‏ هَلْ رَأَيْتَ مِثْلَ هَذَا، أَوْ كَهَذَا‏؟‏‏!‏‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ إِنَّ “ ‏{‏الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ‏}‏ جَبَّارٌ كَانَ بِبَابِلَ يُقَالُ لَهُ‏:‏ نُمْرُوذُ بْنُ كَنْعَانَ بْنِ كُوشَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ وَقِيلَ‏:‏ إِنَّهُ نُمْرُوذُ بْنُ فَالِخَ بْنِ عَابِرَ بْنِ شَالِخَ بْنِ أَرْفَخْشِذِ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ‏}‏، قَالَ‏:‏ هُوَ نُمْرُوذُ بْنُ كَنْعَانَ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبِي، عَنِ النَّضِرِ بْنِ عَرَبِيٍّ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ‏}‏، قَالَ‏:‏ كُنَّا نُحَدِّثُ أَنَّهُ مَلِكٌ يُقَالُ لَهُ نُمْرُوذُ، وَهُوَ أَوَّلُ مَلِكٍ تَجَبَّرَ فِي الْأَرْضِ، وَهُوَ صَاحِبُ الصَّرْحِ بِبَابِلَ‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا مُعَمِّرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ‏:‏ هُوَ اسْمُهُ نُمْرُوذُ، وَهُوَ أَوَّلُ مَلِكٍ تَجَبَّرَ فِي الْأَرْضِ، حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ‏}‏، قَالَ‏:‏ ذُكِرَ لَنَا أَنَّ الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ كَانَ مَلِكًا يُقَالُ لَهُ نُمْرُوذُ، وَهُوَ أَوَّلُ جَبَّارٍ تَجَبَّرَ فِي الْأَرْضِ، وَهُوَ صَاحِبُ الصَّرْحِ بِبَابِلَ‏.‏

حَدَّثَنَا مُوسَى، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرٌو، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ‏:‏ هُوَ نُمْرُوذُ بْنُ كَنْعَانَ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ‏:‏ هُوَ نُمْرُوذُ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، مِثْلَهُ‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا مُعَمِّرٌ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنِي زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، بِمِثْلِهِ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ أَنَّهُ سَمِعَ مُجَاهِدًا يَقُولُ‏:‏ هُوَ نَمْرُوذُ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ‏:‏ هُوَ نَمْرُوذُ، وَيُقَالُ إِنَّهُ أَوَّلُ مَلِكٍ فِي الْأَرْضِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏258‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ‏}‏ ‏[‏258‏]‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِذَلِكَ‏:‏ أَلَمْ تَرَ، يَا مُحَمَّدُ، إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ حِينَ قَالَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ‏:‏ ‏{‏رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ‏}‏، يَعْنِي بِذَلِكَ‏:‏ رَبِّي الَّذِي بِيَدِهِ الْحَيَاةُ وَالْمَوْتُ، يُحْيِي مَنْ يَشَاءُ وَيُمِيتُ مَنْ أَرَادَ بَعْدَ الْإِحْيَاءِ‏.‏ قَالَ‏:‏ أَنَا أَفْعَلُ ذَلِكَ، فَأُحْيِي وَأُمِيتُ، أَسْتَحْيِي مَنْ أَرَدْتُ قَتْلَهُ فَلَا أَقْتُلُهُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنِّي إِحْيَاءً لَهُ وَذَلِكَ عِنْدَ الْعَرَبِ يُسَمَّى “ إِحْيَاءً“، كَمَا قَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْمَائِدَةِ‏:‏ 32‏]‏ وَأَقْتُلُ آخَرَ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنِّي إِمَاتَةً لَهُ‏.‏ قَالَ إِبْرَاهِيمُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ فَإِنَّ اللَّهَ الَّذِي هُوَ رَبِّي يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ مَشْرِقِهَا، فَأْتِ بِهَا- إِنْ كُنْتَ صَادِقًا أَنَّكَ إِلَهٌ- مِنْ مَغْرِبِهَا‏!‏ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ “فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ“، يَعْنِي انْقَطَعَ وَبَطَلَتْ حُجَّتُهُ‏.‏

يُقَالُ مِنْهُ‏:‏ “بُهِتَ يُبْهَتُ بَهْتًا“‏.‏ وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْعَرَبِ أَنَّهَا تَقُولُ بِهَذَا الْمَعْنَى‏:‏ “بُهِتَ“‏.‏ وَيُقَالُ‏:‏ “بُهِتَ الرَّجُلُ “ إِذَا افْتَرَيْتَ عَلَيْهِ كَذِبًا “ بَهْتًا وَبَهَتَانًا وَبِهَاتَّةً“‏.‏

وَقَدْ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الْقَرَأَةِ أَنَّهُ قَرَأَ‏:‏ “فَبَهَتَ الَّذِي كَفَرَ“، بِمَعْنَى‏:‏ فَبَهَتَ إِبْرَاهِيمُ الَّذِي كَفَرَ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ‏}‏، وَذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ دَعَا بِرَجُلَيْنِ فَفَتَلَ أَحَدَهُمَا وَاسْتَحْيَا الْآخَرَ، فَقَالَ‏:‏ أَنَا أُحْيِي هَذَا‏!‏ أَنَا أَسْتَحْيِي مَنْ شِئْتُ، وَأَقْتُلُ مَنْ شِئْتُ‏!‏ قَالَ إِبْرَاهِيمُ عِنْدَ ذَلِكَ‏:‏ “فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ المَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ المَغْرِبِ“، “ ‏{‏فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ‏:‏ ‏{‏أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ‏}‏، أَقْتُلُ مَنْ شِئْتُ، وَأَسْتَحْيِي مَنْ شِئْتُ، أَدَعُهُ حَيًّا فَلَا أَقْتُلُهُ‏.‏ وَقَالَ‏:‏ مَلَكَ الْأَرْضَ مَشْرِقَهَا وَمَغْرِبَهَا أَرْبَعَةُ نَفَرٍ‏:‏ مُؤْمِنَانِ وَكَافِرَانِ، فَالْمُؤْمِنَانِ‏:‏ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ وَذُو الْقَرْنَيْنِ، وَالْكَافِرَانِ‏:‏ بَخْتِنْصَرُ وَنُمْرُوذُ بْنُ كَنْعَانَ، لَمْ يَمْلِكْهَا غَيْرُهُمْ‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا مُعَمِّرٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ‏:‏ أَوَّلُ جَبَّارٍ كَانَ فِي الْأَرْضِ نُمْرُوذُ، ‏.‏ فَكَانَ النَّاسُ يَخْرُجُونَ فَيَمْتَارُونَ مِنْ عِنْدِهِ الطَّعَامُ، فَخَرَجَ إِبْرَاهِيمُ يَمْتَارُ مَعَ مَنْ يَمْتَارُ، فَإِذَا مَرَّ بِهِ نَاسٌ قَالَ‏:‏ مَنْ رَبُّكُمْ‏؟‏ قَالُوا‏:‏ أَنْتَ‏!‏ حَتَّى مَرَّ إِبْرَاهِيمُ، قَالَ‏:‏ مَنْ رَبُّكَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ‏!‏ قَالَ إِبْرَاهِيمُ‏:‏ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ المَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ المَغْرِبِ‏!‏ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ‏.‏ قَالَ‏:‏ فَرَدَّهُ بِغَيْرِ طَعَامٍ‏.‏ قَالَ‏:‏ فَرَجَعَ إِبْرَاهِيمُ عَلَى أَهْلِهِ، ‏.‏

فَمَرَّ عَلَى كَثِيبٍ أَعْفَرَ، فَقَالَ‏:‏ أَلَا آخُذُ مِنْ هَذَا، فَآتِي بِهِ أَهْلِي، فَتَطِيبُ أَنْفُسُهُمْ حِينَ أُدِلُّ عَلَيْهِمْ‏!‏ فَأَخَذَ مِنْهُ فَأَتَى أَهْلَهُ‏.‏ قَالَ‏:‏ فَوَضَعَ مَتَاعَهُ ثُمَّ نَامَ، فَقَامَتِ امْرَأَتُهُ إِلَى مَتَاعِهِ، فَفَتَحَتْهُ، فَإِذَا هِيَ بِأَجْوَدِ طَعَامٍ رَآهُ أَحَدٌ، فَصَنَعَتْ لَهُ مِنْهُ، فَقَرَّبَتْهُ إِلَيْهِ، وَكَانَ عَهِدَ أَهْلَهُ لَيْسَ عِنْدَهُمْ طَعَامٌ، فَقَالَ‏:‏ مِنْ أَيْنَ هَذَا‏؟‏ قَالَتْ‏:‏ مِنَ الطَّعَامِ الَّذِي جِئْتَ بِهِ‏!‏ فَعَلِمَ أَنَّ اللَّهَ رَزَقَهُ، فَحَمِدَ اللَّهَ‏.‏ ثُمَّ بَعَثَ اللَّهُ إِلَى الْجَبَّارِ مَلَكًا أَنْ آمِنْ بِي وَأَتْرُكُكَ عَلَى مُلْكِكَ‏!‏ قَالَ‏:‏ وَهَلْ رَبٌّ غَيْرِي‏؟‏‏!‏ فَجَاءَهُ الثَّانِيَةَ، فَقَالَ لَهُ ذَلِكَ، فَأَبَى عَلَيْهِ‏.‏ ثُمَّ أَتَاهُ الثَّالِثَةَ فَأَبَى عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ الْمَلَكُ‏:‏ اجْمَعْ جُمُوعَكَ إِلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ‏!‏ فَجَمَعَ الْجَبَّارُ جُمُوعَهُ، فَأَمَرَ اللَّهُ الْمَلَكَ، فَفَتَحَ عَلَيْهِ بَابًا مِنَ البَعُوضِ، فَطَلَعَتِ الشَّمْسُ، فَلَمْ يَرَوْهَا مِنْ كَثْرَتِهَا، فَبَعَثَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَأَكَلَتْ لُحُومَهُمْ، وَشَرِبَتْ دِمَاءَهُمْ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْعِظَامُ، وَالْمَلِكُ كَمَا هُوَ لَمْ يُصِبْهُ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ‏.‏ فَبَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِ بَعُوضَةً، فَدَخَلَتْ فِي مَنْخَرِهِ، فَمَكَثَ أَرْبَعَمِئَةِ سَنَةً يُضْرَبُ رَأْسُهُ بِالْمَطَارِقِ، وَأَرْحَمُ النَّاسِ بِهِ مَنْ جَمَعَ يَدَيْهِ وَضَرَبَ بِهِمَا رَأْسَهُ‏.‏ وَكَانَ جَبَّارًا أَرْبَعَمِئَةِ عَامٍ، فَعَذَّبَهُ اللَّهُ أَرْبَعَمِئَةِ سَنَةٍ كَمِلْكِهِ، وَأَمَاتَهُ اللَّهُ‏.‏ وَهُوَ الَّذِي بَنَى صَرْحًا إِلَى السَّمَاءِ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُ مِنَ القَوَاعِدِ، وَهُوَ الَّذِي قَالَ اللَّهُ‏:‏ ‏{‏فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ‏}‏ ‏[‏النَّحْلِ‏:‏ 26‏]‏‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فِي قَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ‏}‏، قَالَ‏:‏ هُوَ نُمْرُوذُ كَانَ بِالْمُوصِلِ وَالنَّاسُ يَأْتُونَهُ، فَإِذَا دَخَلُوا عَلَيْهِ، قَالَ‏:‏ مَنْ رَبُّكُمْ‏؟‏ فَيَقُولُونَ‏:‏ أَنْتَ‏!‏ فَيَقُولُ‏:‏ أَمِيرُوهُمْ‏.‏ فَلَمَّا دَخَلَ إِبْرَاهِيمُ، وَمَعَهُ بَعِيرٌ خَرَجَ يَمْتَارُ بِهِ لِوَلَدِهِ، قَالَ‏:‏ فَعَرَضَهُمْ كُلَّهُمْ، فَيَقُولُ‏:‏ مَنْ رَبُّكُمْ‏؟‏ فَيَقُولُونَ‏:‏ أَنْتَ‏!‏ فَيَقُولُ‏:‏ أَمِيرُوهُمْ‏!‏ حَتَّى عُرِضَ إِبْرَاهِيمُ مَرَّتَيْنِ، فَقَالَ‏:‏ مَنْ رَبُّكَ‏!‏‏؟‏ قَالَ‏:‏ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ‏!‏ قَالَ‏:‏ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ، إِنْ شِئْتُ قَتَلْتُكَ فَأَمَتُّكَ، وَإِنْ شِئْتُ اسْتَحْيَيْتُكَ‏.‏ قَالَ إِبْرَاهِيمُ‏:‏ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ المَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ المَغْرِبِ‏!‏‏!‏ “ ‏{‏فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ‏}‏‏.‏ قَالَ‏:‏ أَخْرِجُوا هَذَا عَنِّي فَلَا تُمِيرُوهُ شَيْئًا‏!‏ فَخَرَجَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ قَدِ امْتَارُوا، وَجُوَالِقَا إِبْرَاهِيمَ يَصْطَفِقَانِ، حَتَّى إِذَا نَظَرَ إِلَى سَوَادِ جِبَالِ أَهْلِهِ، قَالَ‏:‏ لَيَحْزُنِّي صِبْيَتِي إِسْمَاعِيلُ وَإِسْحَاقُ ‏!‏ لَوْ أَنِّي مَلَأْتُ هَذَيْنِ الْجُوَالِقَيْنِ مِنْ هَذِهِ الْبَطْحَاءِ، فَذَهَبْتُ بِهِمَا، قَرَّتْ عَيْنَا صِبْيَتِي، حَتَّى إِذَا كَانَ اللَّيْلُ أَهْرَقْتُهُ‏!‏ قَالَ‏:‏ فَمَلَأَهُمَا، ثُمَّ خَيَّطَهُمَا، ثُمَّ جَاءَ بِهِمَا‏.‏ فَتَرَامَى عَلَيْهِمَا الصَّبِيَّانِ فَرَحًا، وَأَلْقَى رَأْسَهُ فِي حِجْرِ سَارَّةَ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَتْ‏:‏ مَا يُجْلِسُنِي‏!‏ قَدْ جَاءَ إِبْرَاهِيمُ تَعِبًا لَغِبًا، لَوْ قُمْتُ فَصَنَعْتُ لَهُ طَعَامًا إِلَى أَنْ يَقُومَ‏!‏ قَالَ‏:‏ فَأَخَذَتْ وِسَادَةً فَأَدْخَلَتْهَا مَكَانَهَا، وَانْسَلَّتْ قَلِيلًا قَلِيلًا لِئَلَّا تُوقِظَهُ‏.‏ قَالَ‏:‏ فَجَاءَتْ إِلَى إِحْدَى الْغِرَارَتَيْنِ فَفَتَقَتْهَا، فَإِذَا حُوَّارَى مِنَ النَّقِيِّ لَمْ يَرَوْا مِثْلَهُ عِنْدَ أَحَدٍ قَطُّ، فَأَخَذَتْ مِنْهُ فَعَجَنَتْهُ وَخَبَزَتْهُ، فَلَمَّا أَتَتْ تُوقِظُ إِبْرَاهِيمَ جَاءَتْهُ حَتَّى وَضَعَتْهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ‏:‏ أَيُّ شَيْءٍ هَذَا يَا سَارَةُ‏؟‏ قَالَتْ‏:‏ مِنْ جِوَالِقِكَ، لَقَدْ جِئْتَ وَمَا عِنْدَنَا قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ قَالَ‏:‏ فَذَهَبَ يَنْظُرُ إِلَى الْجُوَالِقِ الْآخَرِ فَإِذَا هُوَ مِثْلُهُ، فَعَرَفَ مِنْ أَيْنَ ذَاكَ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، قَالَ‏:‏ لَمَّا قَالَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ‏:‏ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ هُوَ-يَعْنِي نُمْرُوذَ‏:‏ فَأَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ فَدَعَا بِرَجُلَيْنِ، فَاسْتَحْيَا أَحَدَهُمَا، وَقَتَلَ الْآخَرَ، قَالَ‏:‏ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ، قَالَ‏:‏ أَيْ أَسْتَحْيِي مَنْ شِئْتُ فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ‏:‏ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ المَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ المَغْرِبِ “ ‏{‏فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرٌو، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ‏:‏ لَمَّا خَرَجَ إِبْرَاهِيمُ مِنَ النَّارِ، أَدْخَلُوهُ عَلَى الْمَلِكِ، وَلَمْ يَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ دَخَلَ عَلَيْهِ فَكَلَّمَهُ، وَقَالَ لَهُ‏:‏ مَنْ رَبُّكَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ نُمْرُوذُ‏:‏ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ‏!‏ أَنَا أُدْخِلُ أَرْبَعَةَ نَفَرٍ بَيْتًا، فَلَا يُطْعَمُونَ وَلَا يُسْقَوْنَ، حَتَّى إِذَا هَلَكُوا مِنَ الجُوعِ أَطْعَمْتُ اثْنَيْنِ وَسَقَيْتُهُمَا فَعَاشَا، وَتَرَكْتُ اثْنَيْنِ فَمَاتَا‏.‏ فَعَرَفَ إِبْرَاهِيمُ أَنَّ لَهُ قُدْرَةً بِسُلْطَانِهِ وَمُلْكِهِ عَلَى أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ، قَالَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ‏:‏ فَإِنَّ رَبِّيَ الَّذِي يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ المَشْرِقِ، فَأْتِ بِهَا مِنَ المَغْرِبِ‏!‏ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ، وَقَالَ‏:‏ إِنَّ هَذَا إِنْسَانٌ مَجْنُونٌ‏!‏ فَأَخْرِجُوهُ، أَلَا تَرَوْنَ أَنَّهُ مِنْ جُنُونِهِ اجْتَرَأَ عَلَى آلِهَتِكُمْ فَكَسَّرَهَا، وَأَنَّ النَّارَ لَمْ تَأْكُلْهُ‏!‏ وَخَشِيَ أَنْ يَفْتَضِحَ فِي قَوْمِهِ أَعْنِي نُمْرُوذَ وَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْأَنْعَامِ‏:‏ 83‏]‏، فَكَانَ يَزْعُمُ أَنَّهُ رَبٌّ وَأَمَرَ بِإِبْرَاهِيمَ فَأُخْرِجَ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ أَنَّهُ سَمِعَ مُجَاهِدًا يَقُولُ‏:‏ قَالَ‏:‏ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ، أُحْيِي فَلَا أَقْتُلُ، وَأُمِيتُ مَنْ قَتَلْتُ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، كَانَ أَتَى بِرَجُلَيْنِ، فَقَتَلَ أَحَدَهُمَا، وَتَرَكَ الْآخَرَ، فَقَالَ‏:‏ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ، قَالَ‏:‏ أَقْتُلُ فَأُمِيتُ مَنْ قَتَلْتُ، وَأُحْيِي قَالَ‏:‏ اسْتَحْيِي فَلَا أَقْتُلُ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ‏:‏ ذُكِرَ لَنَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏:‏ أَنْ نُمْرُوذَ قَالَ لِإِبْرَاهِيمَ فِيمَا يَقُولُ‏:‏ أَرَأَيْتَ إِلَهَكَ هَذَا الَّذِي تَعْبُدُ وَتَدْعُو إِلَى عِبَادَتِهِ، وَتَذْكُرُ مِنْ قُدْرَتِهِ الَّتِي تُعَظِّمُهُ بِهَا عَلَى غَيْرِهِ، مَا هُوَ‏؟‏ قَالَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ‏:‏ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ‏.‏ قَالَ نُمْرُوذُ‏:‏ فَأَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ‏!‏ فَقَالَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ‏:‏ كَيْفَ تُحْيِي وَتُمِيتُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ آخُذُ رَجُلَيْنِ قَدِ اسْتَوْجَبَا الْقَتْلَ فِي حُكْمِي، فَأَقْتُلُ أَحَدَهُمَا فَأَكُونُ قَدْ أَمَتُّهُ، وَأَعْفُو عَنِ الْآخَرِ فَأَتْرُكُهُ وَأَكُونُ قَدْ أَحْيَيْتُهُ‏!‏ فَقَالَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ عِنْدَ ذَلِكَ‏:‏ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ المَشْرِقِ، فَأْتِ بِهَا مِنَ المَغْرِبِ، أَعْرِفُ أَنَّهُ كَمَا تَقُولُ‏!‏ فَبُهِتَ عِنْدَ ذَلِكَ نُمْرُوذُ، وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيْهِ شَيْئًا، وَعَرَفَ أَنَّهُ لَا يُطِيقُ ذَلِكَ‏.‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ “فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ“، يَعْنِي وَقَعَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ يَعْنِي نُمْرُوذَ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي أَهْلَ الْكُفْرِ إِلَى حُجَّةٍ يَدْحَضُونَ بِهَا حُجَّةَ أَهْلِ الْحَقِّ عِنْدَ الْمُحَاجَّةِ وَالْمُخَاصَمَةِ، لِأَنَّ أَهْلَ الْبَاطِلِ حُجَجُهُمْ دَاحِضَةٌ‏.‏

وَقَدّ بَيَّنَّا أَنَّ مَعْنَى “ الظُّلْمِ “ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَالْكَافِرُ وَضَعَ جُحُودَهُ مَا جَحَدَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، فَهُوَ بِذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ‏}‏، أَيْ‏:‏ لَا يَهْدِيهِمْ فِي الْحُجَّةِ عِنْدَ الْخُصُومَةِ، لِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الضَّلَالَةِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏259‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ “أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ“، نَظِيرَ الَّذِي عَنَى بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ‏}‏، مِنْ تَعْجِيبِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ‏}‏ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ‏}‏، وَإِنَّمَا عَطَفَ قَوْلَهُ‏:‏ “أَوْ كَالَّذِي “ عَلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ‏}‏، وَإِنِ اخْتَلَفَ لَفْظَاهُمَا، لِتَشَابُهِ مَعْنَيَيْهِمَا‏.‏ لِأَنَّ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ‏}‏، بِمَعْنَى‏:‏ هَلْ رَأَيْتَ، يَا مُحَمَّدُ، كَالَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ‏؟‏ ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ‏:‏ “أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ “ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْعَرَبِ الْعَطْفَ بِالْكَلَامِ عَلَى مَعْنًى نَظِيرٍ لَهُ قَدْ تَقَدَّمَهُ، وَإِنْ خَالَفَ لَفْظُهُ لَفْظَهُ‏.‏

وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ نَحَوِيِّي الْبَصْرَةِ أَنَّ “ الْكَافَ “ فِي قَوْلِهِ، “ أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ“، زَائِدَةٌ، وَأَنَّ الْمَعْنَى‏:‏ أَلَمْ تَرَى إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ، أَوِ الَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ‏.‏

وَقَدْ بَيَّنَّا قَبْلُ فِيمَا مَضَى أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ فِي كِتَابِ اللَّهِ شَيْءٌ لَا مَعْنَى لَهُ، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ‏.‏

وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي “ الَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا“‏.‏

فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ هُوَ عُزَيْرٌ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ نَاجِيَةَ بْنِ كَعْبٍ‏.‏ “ أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا “ قَالَ‏:‏ عُزَيْرٌ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ‏.‏ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو خُزَيْمَةَ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ سُلَيْمَانَ بْنَ بُرَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ‏}‏ قَالَ‏:‏ هُوَ عُزَيْرٌ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ‏.‏ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏{‏أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا‏}‏ قَالَ‏:‏ ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ عُزَيْرٌ‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا مُعَمِّرٌ، عَنْ قَتَادَةَ ‏[‏مِثْلَهُ‏]‏‏.‏

حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ‏}‏ قَالَ‏:‏ قَالَ الرَّبِيعُ‏:‏ ذُكِرَ لَنَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ الَّذِي أَتَى عَلَى الْقَرْيَةِ هُوَ عُزَيْرٌ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ‏:‏ ‏{‏أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا‏}‏ قَالَ‏:‏ عُزَيْرٌ‏.‏

حَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرٌو، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏{‏أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ‏}‏ قَالَ‏:‏ عُزَيْرٌ‏.‏

حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ‏:‏ أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ الضَّحَاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا‏}‏ إِنَّهُ هُوَ عُزَيْرٌ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ قَالَ لَنَا سَلَمٌ الْخَوَاصُّ‏:‏ كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ‏:‏ هُوَ عُزَيْرٌ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ هُوَ أُورِمْيَا بْنُ حِلِقْيَا، وَزَعَمَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ أُورِمْيَا هُوَ الْخَضِرُ‏.‏

حَدَّثَنَا بِذَلِكَ ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ‏:‏ اسْمُ الْخَضِرِ فِيمَا كَانَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ يَزْعُمُ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ- أُورِمْيَا بْنُ حِلِقْيَا، وَكَانَ مِنْ سِبْطِ هَارُونَ بْنِ عِمْرَانَ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ مَعْقِلٍ أَنَّهُ سَمِعَ وَهْبَ بْنِ مُنَبِّهٍ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا “ أَنَّ أُورِمْيَا لَمَّا خُرِّبَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ وَحُرِّقَتِ الْكُتُبُ، وَقَفَ فِي نَاحِيَةِ الْجَبَلِ، فَقَالَ‏:‏ “‏}‏ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا“‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي ابْنُ إِسْحَاقَ، عَمَّنْ لَا يَتَّهِمُ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ‏:‏ هُوَ أُورِمْيَا‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَسْكَرٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ عَبْدَ الصَّمَدِ بْنَ مَعْقِلٍ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، مِثْلَهُ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا‏}‏، قَالَ‏:‏ كَانَ نَبِيًّا وَكَانَ اسْمُهُ أُورِمْيَا‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدٍ، مِثْلَهُ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنِي بَكْرُ بْنُ ‏[‏مُضَرَ‏]‏، قَالَ‏:‏ يَقُولُونَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏:‏ إِنَّهُ أُورِمْيَا‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ أَنْ يُقَالَ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَجَّبَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّنْ قَالَ- إِذْ رَأَى قَرْيَةً خَاوِيَةً عَلَى عُرُوشِهَا- “ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا“، مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُ ابْتَدَأَ خَلْقَهَا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ، فَلَمْ يُقْنِعْهُ عِلْمُهُ بِقُدْرَتِهِ عَلَى ابْتِدَائِهَا حَتَّى قَالَ‏:‏ أَنَّى يُحْيِيهَا اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا‏!‏ وَلَا بَيَانَ عِنْدِنَا مِنَ الوَجْهِ الَّذِي يَصِحُّ مِنْ قِبَلِهِ الْبَيَانُ عَلَى اسْمِ قَائِلِ ذَلِكَ‏.‏ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عُزَيْرًا، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ أَوَرَمَيَا، وَلَا حَاجَةَ بِنَا إِلَى مَعْرِفَةِ اسْمِهِ، إِذْ لَمْ يَكُنِ الْمَقْصُودُ بِالْآيَةِ تَعْرِيفَ الْخَلْقِ اسْمَ قَائِلِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ بِهَا تَعْرِيفُ الْمُنْكِرِينَ قُدْرَةَ اللَّهِ عَلَى إِحْيَائِهِ خَلَقَهُ بَعْدَ مَمَاتِهِمْ، وَإِعَادَتِهِمْ بَعْدَ فَنَائِهِمْ، وَأَنَّهُ الَّذِي بِيَدِهِ الْحَيَاةُ وَالْمَوْتُ مِنْ قُرَيْشٍ، وَمَنْ كَانَ يُكَذِّبُ بِذَلِكَ مِنْ سَائِرِ الْعَرَبِ وَتَثْبِيتُ الْحُجَّةِ بِذَلِكَ عَلَى مَنْ كَانَ بَيْنَ ظَهَرَانِي مُهَاجَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ يَهُودِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، بِإِطْلَاعِهِ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا يُزِيلُ شَكَّهُمْ فِي نُبُوَّتِهِ، وَيَقْطَعُ عُذْرَهُمْ فِي رِسَالَتِهِ، إِذْ كَانَتْ هَذِهِ الْأَنْبَاءُ الَّتِي أَوْحَاهَا إِلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كِتَابِهِ، مِنَ الْأَنْبَاءِ الَّتِي لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَوْمُهُ، وَلَمْ يَكُنْ عِلْمُ ذَلِكَ إِلَّا عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَلَمْ يَكُنْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَوْمُهُ مِنْهُمْ، بَلْ كَانَ أُمِّيًّا وَقَوْمُهُ أُمِّيُّونَ، فَكَانَ مَعْلُومًا بِذَلِكَ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ اليَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا بَيْنَ ظَهَرَانِي مُهَاجَرِهِ، أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ إِلَّا بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ إِلَيْهِ‏.‏ وَلَوْ كَانَ الْمَقْصُودُ بِذَلِكَ الْخَبَرِ عَنِ اسْمِ قَائِلِ ذَلِكَ، لَكَانَتِ الدَّلَالَةُ مَنْصُوبَةً عَلَيْهِ نَصْبًا يَقْطَعُ الْعُذْرَ وَيُزِيلُ الشَّكَّ، وَلَكِنَّ الْقَصْدَ كَانَ إِلَى ذَمِّ قِيلِهِ، فَأَبَانَ تَعَالَى ذِكْرُهُ ذَلِكَ لِخَلْقِهِ‏.‏

وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي “ الْقَرْيَةِ “ الَّتِي مَرَّ عَلَيْهَا الْقَائِلُ‏:‏ “أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا“‏.‏

فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ هِيَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَهْلِ بْنِ عَسْكَرٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، قَالَا حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ مَعْقِلٍ أَنَّهُ سَمِعَ وَهْبَ بْنَ مُنَبِّهٍ، قَالَ‏:‏ لَمَّا رَأَى أُورِمْيَا هَدْمَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ كَالْجَبَلِ الْعَظِيمِ، قَالَ‏:‏ ‏{‏أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا‏}‏‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ مَعْقِلٍ أَنَّهُ سَمِعَ وَهْبَ بْنَ مُنَبِّهٍ، قَالَ‏:‏ هِيَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي ابْنُ إِسْحَاقَ عَمَّنْ لَا يَتَّهِمُ أَنَّهُ سَمِعَ وَهْبَ بْنَ مُنَبِّهٍ يَقُولُ ذَلِكَ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ‏:‏ ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ بَيْتُ الْمَقْدِسِ، أَتَى عَلَيْهِ عُزَيْرٌ بَعْدَ مَا خَرَّبَهُ بَخْتِنْصَرُ الْبَابِلِيُّ‏.‏

حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ الضَّحَاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا‏}‏، أَنَّهُ مَرَّ عَلَى الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ‏}‏ قَالَ‏:‏ الْقَرْيَةُ‏:‏ بَيْتُ الْمَقْدِسِ، مَرَّ بِهَا عُزَيْرٌ بَعْدَ إِذْ خَرَّبَهَا بَخْتَنْصَرُ‏.‏

حَدَّثَنَا عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ‏:‏ ‏{‏أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ‏}‏ قَالَ‏:‏ الْقَرْيَةُ بَيْتُ الْمَقْدِسِ، مَرَّ عَلَيْهَا عُزَيْرٌ وَقَدْ خَرَّبَهَا بَخْتَنْصَرُ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ هِيَ الْقَرْيَةُ الَّتِي كَانَ اللَّهُ أَهْلَكَ فِيهَا الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ، فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ‏}‏، قَالَ‏:‏ قَرْيَةٌ كَانَ نَـزَلَ بِهَا الطَّاعُونُ ثُمَّ اقْتَصَّ قِصَّتَهُمُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي مَوْضِعِهَا عَنْهُ، إِلَى أَنْ بَلَغَ ‏{‏فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا‏}‏، فِي الْمَكَانِ الَّذِي ذَهَبُوا يَبْتَغُونَ فِيهِ الْحَيَاةَ، فَمَاتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمُ اللَّهُ، ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْبَقَرَةِ‏:‏ 243‏]‏‏.‏ قَالَ‏:‏ وَمَرَّ بِهَا رَجُلٌ وَهِيَ عِظَامٌ تَلُوحُ، فَوَقَفَ يَنْظُرُ، فَقَالَ‏:‏ ‏{‏أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ‏}‏ إِلَى قَوْلِهِ “ لَمْ يَتَسَنَّهْ“‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَالصَّوَابُ مِنَ القَوْلِ فِي ذَلِكَ كَالْقَوْلِ فِي اسْمِ الْقَائِلِ‏:‏ “أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا “ سَوَاءً لَا يَخْتَلِفَانِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏259‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ “وَهِيَ خَاوِيَةٌ “ وَهِيَ خَالِيَةٌ مِنْ أَهْلِهَا وَسُكَّانِهَا‏.‏

يُقَالُ مِنْ ذَلِكَ‏:‏ “خَوَتِ الدَّارُ تَخْوِي خَوَاءً وَخُوِيًّا“، وَقَدْ يُقَالُ لِلْقَرْيَةِ‏:‏ “خَوِيَتْ“، وَالْأَوَّلُ أَعْرَبُ وَأَفْصَحُ‏.‏ وَأَمَّا فِي الْمَرْأَةِ إِذَا كَانَتْ نُفَسَاءَ فَإِنَّهُ يُقَالُ‏:‏ “خَوِيَتْ تَخْوَى خَوًى “ مَنْقُوصًا، وَقَدْ يُقَالُ فِيهَا‏:‏ “خَوَتْ تَخْوِي، كَمَا يُقَالُ فِي الدَّارِ‏.‏ وَكَذَلِكَ‏:‏ “خَوِيَ الْجَوْفُ يَخْوَى خَوًى شَدِيدًا“، وَلَوْ قِيلَ فِي الْجَوْفِ مَا قِيلَ فِي الدَّارِ وَفِي الدَّارِ مَا قِيلَ فِي الْجَوْفِ كَانَ صَوَابًا، غَيْرَ أَنَّ الْفَصِيحَ مَا ذَكَرْتُ‏.‏

وَأَمَّا “ الْعُرُوشُ“، فَإِنَّهَا الْأَبْنِيَةُ وَالْبُيُوتُ، وَاحِدُهَا “ عَرْشٌ“، وَجَمْعُ قَلِيلِهِ “ أَعْرُشٌ“‏.‏

وَكُلُّ بِنَاءٍ فَإِنَّهُ “ عَرْشٌ“‏.‏ وَيُقَالُ‏:‏ “عَرَشَ فُلَانٌ دَارًا يَعْرِشُ وَيَعْرُشُ عَرْشًا“، وَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْأَعْرَافِ‏:‏ 137‏]‏ يَعْنِي يَبْنُونَ، وَمِنْهُ قِيلَ‏:‏ “عَرِيشُ مَكَةَ“، يَعْنِي بِهِ‏:‏ خِيَامَهَا وَأَبْنِيَتَهَا‏.‏

وَبِمِثْلِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ “خَاوِيَةٌ“، خَرَابٌ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ‏:‏ بَلَغَنَا أَنَّ عُزَيْرًا خَرَجَ فَوَقَفَ عَلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَقَدْ خَرَّبَهُ بَخْتَنْصَرُ، فَوَقَفَ فَقَالَ‏:‏ أَبْعَدُ مَا كَانَ لَكِ مِنَ القُدْسِ وَالْمُقَاتِلَةِ وَالْمَالِ مَا كَانَ‏!‏‏!‏ فَحَزِنَ‏.‏

حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ الضَّحَاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا‏}‏ قَالَ‏:‏ هِيَ خَرَابٌ‏.‏

حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، قَالَ‏:‏ مَرَّ عَلَيْهَا عُزَيْرٌ وَقَدْ خَرَّبَهَا بَخْتَنْصَرُ‏.‏

حَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرٌو، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏{‏وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا‏}‏ يَقُولُ‏:‏ سَاقِطَةٌ عَلَى سُقُفِهَا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏259‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَمَعْنَى ذَلِكَ فِيمَا ذُكِرَ لَنَا‏:‏

أَنَّ قَائِلَهُ لَمَّا مَرَّ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ أَوْ بِالْمَوْضِعِ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ أَنَّهُ مَرَّ بِهِ خَرَابًا بَعْدَ مَا عَهِدَهُ عَامِرًا قَالَ‏:‏ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ خَرَابِهَا‏؟‏‏.‏

فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ كَانَ قِيلُهُ مَا قَالَ مِنْ ذَلِكَ شَكًّا فِي قُدْرَةِ اللَّهِ عَلَى إِحْيَائِهِ‏.‏ فَأَرَاهُ اللَّهُ قُدْرَتَهُ عَلَى ذَلِكَ بِضَرْبِهِ الْمَثَلَ لَهُ فِي نَفْسِهِ، ثُمَّ أَرَاهُ الْمَوْضِعَ الَّذِي أَنْكَرَ قُدْرَتَهُ عَلَى عِمَارَتِهِ وَإِحْيَائِهِ، أَحْيَا مَا رَآهُ قَبْلَ خَرَابِهِ، وَأَعْمَرَ مَا كَانَ قَبْلَ خَرَابِهِ‏.‏

وَذَلِكَ أَنَّ قَائِلَ ذَلِكَ كَانَ-فِيمَا ذُكِرَ لَنَا- عَهِدَهُ عَامِرًا بِأَهْلِهِ وَسُكَّانِهِ، ثُمَّ رَآهُ خَاوِيًا عَلَى عُرُوشِهِ، قَدْ بَادَ أَهْلُهُ، وَشَتَّتَهُمُ الْقَتْلُ وَالسِّبَاءُ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ بِذَلِكَ الْمَكَانِ أَحَدٌ، وَخُرِّبَتْ مَنَازِلُهُمْ وَدُورُهُمْ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْأَثَرُ‏.‏ فَلَمَّا رَآهُ كَذَلِكَ بَعْدَ الْحَالِ الَّتِي عَهِدَهُ عَلَيْهَا، قَالَ‏:‏ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ خَرَابِهَا فَيَعْمُرُهَا، اسْتِنْكَارًا-فِيمَا قَالَهُ بَعْضُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ- فَأَرَاهُ كَيْفِيَّةَ إِحْيَائِهِ ذَلِكَ بِمَا ضَرَبَهُ لَهُ فِي نَفْسِهِ، وَفِيمَا كَانَ فِي إَدَوَاتِهِ وَفِي طَعَامِهِ، ‏.‏ ثُمَّ عَرَّفَهُ قُدْرَتَهُ عَلَى ذَلِكَ وَعَلَى غَيْرِهِ بِإِظْهَارِهِ عَلَى إِحْيَائِهِ مَا كَانَ عَجَبًا عِنْدَهُ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ إِحْيَاؤُهُ رَأْيَ عَيْنِهِ حَتَّى أَبْصَرَهُ بِبَصَرِهِ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قَالَ‏:‏ ‏{‏أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏‏.‏

وَكَانَ سَبَبَ قِيلِهِ ذَلِكَ، كَالَّذِي‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَمَّنْ لَا يَتَّهِمُ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ الْيَمَانِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ‏:‏ قَالَ اللَّهُ لِأَرَمْيَا حِينَ بَعَثَهُ نَبِيًّا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ‏:‏ “ يَا أَرَمْيَا، مِنْ قَبْلِ أَنْ أَخْلُقَكَ اخْتَرْتُكَ، وَمِنْ قَبْلِ أَنْ أُصَوِّرَكَ فِي رَحِمِ أُمِّكَ قَدَّسْتُكَ، وَمِنْ قَبْلِ أَنْ أُخْرِجَكَ مِنْ بَطْنِهَا طَهَّرْتُكَ، وَمِنْ قَبْلِ أَنْ تَبْلُغَ السَّعْيَ نبَّيْتُكَ، وَمِنْ قَبْلِ أَنْ تَبْلُغَ الْأَشُدَّ اخْتَرْتُكَ، وَلِأَمْرٍ عَظِيمٍ اجْتَبَيْتُكَ، فَبَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ إِرِمْيَا إِلَى مَلِكِ بَنِي إِسْرَائِيلَ يُسَدِّدُهُ وَيُرْشِدُهُ، وَيَأْتِيهِ بِالْبِرِّ مِنَ اللَّهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ‏;‏ قَالَ‏:‏ ثُمَّ عَظُمَتِ الْأَحْدَاثُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَرَكِبُوا الْمَعَاصِيَ، وَاسْتَحَلُّوا الْمَحَارِمَ، وَنَسُوا مَا كَانَ اللَّهُ صَنَعَ بِهِمْ، وَمَا نَجَّاهُمْ مِنْ عَدُوِّهِمْ سَنْحَارِيبَ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى أُورِمْيَا‏:‏ أَنْ ائْتِ قَوْمَكَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَاقْصُصْ عَلَيْهِمْ مَا آمُرُكَ بِهِ، وَذَكِّرْهُمْ نِعْمَتِي عَلَيْهِمْ وَعَرِّفْهُمْ أَحْدَاثَهُمْ ثُمَّ ذَكَرَ مَا أَرْسَلَ اللَّهُ بِهِ أُورِمْيَا إِلَى قَوْمِهِ مِنْ بَنِي سرائيلَ‏.‏ قَالَ‏:‏ ثُمَّ أَوْحَى اللَّهُ إِلَى أُورِمْيَا‏:‏ إِنِّي مُهْلِكٌ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِيَافِثَ- وَيَافِثُ أَهْلُ بَابِلَ، وَهُمْ مِنْ وَلَدِ يَافِثَ بْنِ نُوحٍ- فَلَمَّا سَمِعَ أُورِمْيَا وَحْيَ رَبِّهِ، صَاحَ وَبَكَى وَشَقَّ ثِيَابِهِ، وَنَبَذَ الرَّمَادَ عَلَى رَأْسِهِ، فَقَالَ‏:‏ مَلْعُونٌ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ، وَيَوْمٌ لُقِّيتُ فِيهِ التَّوْرَاةَ، وَمِنْ شَرِّ أَيَّامِي يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ، فَمَا أُبْقِيتُ آخِرَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا لِمَا هُوَ شَرُّ عَلَيَّ‏!‏ لَوْ أَرَادَ بِي خَيْرًا مَا جَعَلَنِي آخِرَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ‏!‏ فَمِنْ أَجْلِي تُصِيبُهُمُ الشِّقْوَةُ وَالْهَلَاكُ‏!‏ فَلَمَّا سَمِعَ اللَّهُ تَضَرُّعَ الْخَضِرِ وَبُكَاءَهُ وَكَيْفَ يَقُولُ، نَادَاهُ‏:‏ أُورِمْيَا ‏!‏ أَشَقَّ عَلَيْكَ مَا أَوْحَيْتُ إِلَيْكَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ نَعَمْ يَا رَبِّ، أَهْلِكْنِي قَبْلَ أَنْ أَرَى فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مَا لَا أُسَرُّ بِهِ، فَقَالَ اللَّهُ‏:‏ وَعِزَّتِي الْعَزِيزَةُ، لَا أُهْلِكُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَبَنِي إِسْرَائِيلَ حَتَّى يَكُونَ الْأَمْرُ مِنْ قِبَلِكَ فِي ذَلِكَ‏!‏ فَفَرِحَ عِنْدَ ذَلِكَ أُورِمْيَا لِمَا قَالَ لَهُ رَبُّهُ، وَطَابَتْ نَفْسُهُ، وَقَالَ‏:‏ لَا وَالَّذِي بَعَثَ مُوسَى وَأَنْبِيَاءَهُ بِالْحَقِّ، لَا آمُرُ رَبِّي بِهَلَاكِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَبَدًا‏.‏ ثُمَّ أَتَى مَلِكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَخْبَرَهُ بِمَا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ، فَفَرِحَ وَاسْتَبْشَرَ وَقَالَ‏:‏ إِنْ يُعَذِّبْنَا رَبُّنَا فَبِذُنُوبٍ كَثِيرَةٍ قَدَّمْنَاهَا لِأَنْفُسِنَا، وَإِنْ عَفَا عَنَّا فَبِقُدْرَتِهِ‏.‏

ثُمَّ إِنَّهُمْ لَبِثُوا بَعْدَ هَذَا الْوَحْيِ ثَلَاثَ سِنِينَ لَمْ يَزْدَادُوا إِلَّا مَعْصِيَةً، وَتَمَادَوْا فِي الشَّرِّ، وَذَلِكَ حِينَ اقْتَرَبَ هَلَاكُهُمْ، فَقَلَّ الْوَحْيُ، حَتَّى لَمْ يَكُونُوا يَتَذَكَّرُونَ الْآخِرَةَ، وَأَمْسَكَ عَنْهُمْ حِينَ أَلْهَتْهُمُ الدُّنْيَا وَشَأْنُهَا، فَقَالَ مِلْكُهُمْ‏:‏ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ انْتَهُوا عَمَّا أَنْتُمْ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّكُمْ بَأْسٌ مِنَ اللَّهِ، وَقَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ عَلَيْكُمْ مُلُوكٌ لَا رَحْمَةَ لَهُمْ بِكُمْ، فَإِنَّ رَبَّكُمْ قَرِيبُ التَّوْبَةِ، مَبْسُوطُ الْيَدَيْنِ بِالْخَيْرِ، رَحِيمٌ بِمَنْ تَابَ إِلَيْهِ‏!‏‏.‏ فَأَبَوْا عَلَيْهِ أَنْ يَنْـزِعُوا عَنْ شَيْءٍ مِمَّا هُمْ عَلَيْهِ، وَإِنَّ اللَّهَ أَلْقَى فِي قَلْبِ بَخْتنَصَرَ بْنِ نَبُوذْرَاذَانَ ‏[‏بْنِ سَنْحَارِيبَ بْنِ دَارَيَاسَ بْنِ نُمْرُوذَ بْنِ فَالْغَ بْنِ عَابِرِ وَنُمْرُوذُ صَاحِبُ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الَّذِي حَاجَّهُ فِي رَبِّهِ‏]‏‏.‏ أَنَّ يَسِيرَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ يَفْعَلُ فِيهِ مَا كَانَ جَدُّهُ سَنْحَارِيبُ أَرَادَ أَنْ يَفْعَلَهُ، فَخَرَجَ فِي سِتِّمِائَةِ أَلْفِ رَايَةٍ يُرِيدُ أَهْلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ‏;‏ فَلَمَّا فَصَلَ سَائِرًا، أَتَى مَلِكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ الْخَبَرُ أَنَّ بَخْتَنْصَرَ أَقْبَلَ هُوَ وَجُنُودُهُ يُرِيدُكُمْ‏.‏ فَأَرْسَلَ الْمَلِكُ إِلَى أَرَمْيَا، فَجَاءَهُ فَقَالَ‏:‏ يَا أَرَمْيَا، أَيْنَ مَا زَعَمْتَ لَنَا أَنَّ رَبَّنَا أَوْحَى إِلَيْكَ أَنْ لَا يُهْلِكَ أَهْلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ حَتَّى يَكُونَ مِنْكَ الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ‏؟‏‏.‏

‏.‏ فَقَالَ أَرَمْيَا لِلْمَلِكِ‏:‏ إِنَّ رَبِّي لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ، وَأَنَا بِهِ وَاثِقٌ‏.‏

فَلَمَّا اقْتَرَبَ الْأَجَلُ، وَدَنَا انْقِطَاعُ مُلْكِهِمْ، وَعَزَمَ اللَّهُ عَلَى هَلَاكِهِمْ، بَعَثَ اللَّهُ مَلِكًا مِنْ عِنْدِهِ، فَقَالَ لَهُ‏:‏ اذْهَبْ إِلَى أَرَمْيَا فَاسْتَفْتِهِ وَأَمَرَهُ بِالَّذِي يَسْتَفْتِيهِ فِيهِ‏.‏

فَأَقْبَلَ الْمَلِكُ إِلَى أَرَمْيَا، وَقَدْ تَمَثَّلَ لَهُ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَالَ لَهُ أَرَمْيَا‏:‏ مَنْ أَنْتَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ رَجُلٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَسْتَفْتِيكَ فِي بَعْضِ أَمْرِي، فَأَذِنَ لَهُ، فَقَالَ الْمَلَكُ‏:‏ يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَتَيْتُكَ أَسْتَفْتِيكَ فِي أَهْلِ رَحِمِي، وَصَلْتُ أَرْحَامَهُمْ بِمَا أَمَرَنِي اللَّهُ بِهِ، لَمْ آتِ إِلَيْهِمْ إِلَّا حَسَنًا، وَلَمْ آلُهُمْ كَرَامَةً، فَلَا تَزِيدُهُمْ كَرَامَتِي إِيَّاهُمْ إِلَّا إِسْخَاطًا لِي، فَأَفْتِنِي فِيهِمْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ‏؟‏ فَقَالَ لَهُ‏:‏ أَحْسِنْ فِيمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ اللَّهِ، وَصِلْ مَا أَمَرَكَ اللَّهُ بِهِ أَنْ تَصِلَ، وَأَبْشِرْ بِخَيْرٍ‏.‏ فَانْصَرَفَ عَنْهُ الْمَلَكُ‏;‏ فَمَكَثَ أَيَّامًا ثُمَّ أَقْبَلَ إِلَيْهِ فِي صُورَةِ ذَلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي جَاءَهُ، فَقَعَدَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ لَهُ أَرَمْيَا‏:‏ مَنْ أَنْتَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ أَنَا الرَّجُلُ الَّذِي أَتَيْتُكَ فِي شَأْنِ أَهْلِي‏.‏ فَقَالَ لَهُ نَبِيُّ اللَّهِ، أَوَمَا طَهُرَتْ لَكَ أَخْلَاقُهُمْ بَعْدُ، وَلَمْ تَرَ مِنْهُمُ الَّذِي تُحِبُّ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أَعْلَمُ كَرَامَةً يَأْتِيهَا أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ إِلَى أَهْلِ رَحِمِهِ إِلَّا وَقَدْ أَتَيْتُهَا إِلَيْهِمْ وَأَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ‏!‏ فَقَالَ النَّبِيُّ‏:‏ ارْجِعْ إِلَى أَهْلِكَ فَأَحْسِنْ إِلَيْهِمْ، أَسْأَلُ اللَّهَ الَّذِي يُصْلِحُ عِبَادَهُ الصَّالِحِينَ أَنْ يُصْلِحَ ذَاتَ بَيْنِكُمْ، وَأَنْ يَجْمَعَكُمْ عَلَى مَرْضَاتِهِ، وَيُجَنِّبَكُمْ سُخْطَهُ‏!‏ فَقَامَ الْمَلَكُ مِنْ عِنْدِهِ، فَلَبِثَ أَيَّامًا، وَقَدْ نَـزَلَ بَخْتَنْصَرُ وَجُنُودُهُ حَوْلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَكْثَرَ مِنَ الجَرَادِ، فَفَزِعَ بَنُو إِسْرَائِيلَ فَزَعًا شَدِيدًا، وَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى مَلِكِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَدَعَا أَرَمْيَا، فَقَالَ‏:‏ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَيْنَ مَا وَعَدَكَ اللَّهُ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ إِنِّي بِرَبِّي وَاثِقٌ‏.‏

ثُمَّ إِنَّ الْمَلَكَ أَقْبَلَ إِلَى أَرَمْيَا وَهُوَ قَاعِدٌ عَلَى جِدَارِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ يَضْحَكُ وَيَسْتَبْشِرُ بِنَصْرِ رَبِّهِ الَّذِي وَعَدَهُ، فَقَعَدَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ لَهُ أَرَمْيَا‏:‏ مَنْ أَنْتَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ أَنَا الَّذِي كُنْتُ اسْتَفْتَيْتُكَ فِي شَأْنِ أَهْلِي مَرَّتَيْنِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ‏:‏ أَوَلَمْ يَأْنِ لَهُمْ أَنْ يُفِيقُوا مِنَ الذِي هُمْ فِيهِ‏؟‏ فَقَالَ الْمَلَكُ‏:‏ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، كُلُّ شَيْءٍ كَانَ يُصِيبُنِي مِنْهُمْ قَبْلَ الْيَوْمِ كُنْتُ أَصْبِرُ عَلَيْهِ، وَأَعْلَمُ أَنَّ مَا بِهِمْ فِي ذَلِكَ سُخْطِي، فَلَمَّا أَتَيْتُهُمُ الْيَوْمَ رَأَيْتُهُمْ فِي عَمَلٍ لَا يُرْضِي اللَّهَ، وَلَا يُحِبُّهُ اللَّهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ‏:‏ عَلَى أَيِّ عَمَلٍ رَأَيْتَهُمْ‏؟‏ قَالَ‏:‏ يَا نَبِيَّ اللَّهِ رَأَيْتُهُمْ عَلَى عَمَلٍ عَظِيمٍ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ، فَلَوْ كَانُوا عَلَى مِثْلِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ قَبْلَ الْيَوْمِ لَمْ يَشْتَدَّ عَلَيْهِمْ غَضَبِي، وَصَبَرْتُ لَهُمْ وَرَجَوْتُهُمْ، وَلَكِنْ غَضِبْتُ الْيَوْمَ لِلَّهِ وَلَكَ، فَأَتَيْتُكَ لِأُخْبِرَكَ خَبَرَهُمْ، وَإِنِّي أَسْأَلُكَ بِاللَّهِ-الَّذِي هُوَ بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إِلَّا مَا دَعَوْتَ عَلَيْهِمْ رَبَّكَ أَنْ يُهْلِكَهُمْ‏.‏ فَقَالَ أَرَمْيَا‏:‏ يَا مَالِكَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، إِنْ كَانُوا عَلَى حَقٍّ وَصَوَابٍ فَأَبْقِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا عَلَى سُخْطِكَ وَعَمَلٍ لَا تَرْضَاهُ، فَأَهْلِكْهُمْ‏!‏ فَلَمَّا خَرَجَتِ الْكَلِمَةُ مِنْ فِي أَرَمْيَا أَرْسَلَ اللَّهُ صَاعِقَةً مِنَ السَّمَاءِ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَالْتَهَبَ مَكَانُ الْقُرْبَانِ وَخُسِفَ بِسَبْعَةِ أَبْوَابٍ مِنْ أَبْوَابِهَا‏;‏ فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَرَمْيَا صَاحَ وَشَقَّ ثِيَابِهِ، وَنَبَذَ الرَّمَادَ عَلَى رَأْسِهِ، فَقَالَ يَا مَلِكَ السَّمَاءِ، وَيَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، أَيْنَ مِيعَادُكَ الَّذِي وَعَدْتَنِي‏؟‏ فَنُودِيَ أَرَمْيَا‏:‏ إِنَّهُ لَمْ يُصِبْهُمُ الَّذِي أَصَابَهُمْ إِلَّا بفُتيَاكَ الَّتِي أَفْتَيْتَ بِهَا رَسُولَنَا، فَاسْتَيْقَنَ النَّبِيُّ أَنَّهَا فُتْيَاهُ الَّتِي أَفْتَى بِهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَأَنَّهُ رَسُولُ رَبِّهِ، فَطَارَ أَرَمْيَا حَتَّى خَالَطَ الْوُحُوشَ‏.‏ وَدَخَلَ بَخْتَنْصَرُ وَجُنُودُهُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَوَطِئَ الشَّامَ، وَقَتَلَ بَنِي إِسْرَائِيلَ حَتَّى أَفْنَاهُمْ، وَخَرَّبَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ أَمَرَ جُنُودَهُ أَنْ يَمْلَأَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ تُرْسَهُ تُرَابًا ثُمَّ يَقْذِفُهُ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَقَذَفُوا فِيهِ التُّرَابَ حَتَّى مَلَأُوهُ، ثُمَّ انْصَرَفَ رَاجِعًا إِلَى أَرْضِ بَابِلَ، وَاحْتَمَلَ مَعَهُ سَبَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَجْمَعُوا مَنْ كَانَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ كُلَّهُمْ، فَاجْتَمَعَ عِنْدَهُ كُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَاخْتَارَ مِنْهُمْ سَبْعِينَ أَلْفَ صَبِيٍّ‏;‏ فَلَمَّا خَرَجَتْ غَنَائِمُ جُنْدِهِ، وَأَرَادَ أَنْ يَقْسِمَهُمْ فِيهِمْ، قَالَتْ لَهُ الْمُلُوكُ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ‏:‏ أَيُّهَا الْمَلِكُ، لَكَ غَنَائِمُنَا كُلُّهَا، وَاقْسِمْ بَيْنَنَا هَؤُلَاءِ الصِّبْيَانِ الَّذِينَ اخْتَرْتَهُمْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ‏!‏ فَفَعَلَ، فَأَصَابَ كُلٌّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَرْبَعَةَ غُلْمَةٍ، وَكَانَ مِنْ أُولَئِكَ الْغِلْمَانِ‏:‏ “دَانْيَالُ“، وَ“ عَزَارَيَا“، وَ“ مِيشَايِلَ“، وَ“ حَنَانْيَا“‏.‏ وَجَعَلَهُمْ بَخْتَنْصَرُ ثَلَاثَ فِرَقٍ‏:‏ فَثُلُثًا أَقَرَّ بِالشَّامِ، وَثُلُثًا سَبَى، وَثُلُثًا قَتَلَ‏.‏ وَذَهَبَ بِآنِيَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ حَتَّى أَقْدَمَهَا بَابِلَ وَبِالصِّبْيَانِ السَّبْعِينَ الْأَلْفَ حَتَّى أُقَدَمَهُمْ بَابِلَ، فَكَانَتْ هَذِهِ الْوَقْعَةَ الْأَوْلَى الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ، بِإِحْدَاثِهِمْ وَظُلْمِهِمْ‏.‏

فَلَمَّا وَلَّى بَخْتَنْصَرُ عَنْهُ رَاجِعًا إِلَى بَابِلَ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ سَبَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَقْبَلَ أَرَمْيَا عَلَى حِمَارٍ لَهُ مَعَهُ عَصِيرٌ مِنْ عِنَبٍ فِي زُكْرَةٍ وَسَلَّةِ تِينٍ، حَتَّى أَتَى إِيلِيَا، فَلَمَّا وَقَفَ عَلَيْهَا، وَرَأَى مَا بِهَا مِنَ الخَرَابِ دَخَلَهُ شَكٌّ، فَقَالَ‏:‏ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ وَحِمَارُهُ وَعَصِيرُهُ وَسَلَّةُ تِينِهِ عِنْدَهُ حَيْثُ أَمَاتَهُ اللَّهُ، وَأَمَاتَ حِمَارَهُ مَعَهُ‏.‏ فَأَعْمَى اللَّهُ عَنْهُ الْعُيُونَ، فَلَمْ يَرَهُ أَحَدٌ، ثُمَّ بَعَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى، فَقَالَ لَهُ‏:‏ كَمْ لَبِثْتَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ‏!‏ قَالَ‏:‏ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ“، يَقُولُ‏:‏ لَمْ يَتَغَيَّرْ “ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا “ فَنَظَرَ إِلَى حِمَارِهِ يَاتَصِلُ بَعْضٌ إِلَى بَعْضٍ-وَقَدْ كَانَ مَاتَ مَعَهُ- بِالْعُرُوقِ وَالْعَصَبِ، ثُمَّ كَيْفَ كُسِيَ ذَلِكَ مِنْهُ اللَّحْمَ حَتَّى اسْتَوَى، ثُمَّ جَرَى فِيهِ الرُّوحُ، فَقَامَ يَنْهَقُ، وَنَظَرَ إِلَى عَصِيرِهِ وَتِينِهِ، فَإِذَا هُوَ عَلَى هَيْئَتِهِ حِينَ وَضْعَهُ لَمْ يَتَغَيَّرْ‏.‏ فَلَمَّا عَايَنَ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ مَا عَايَنَ قَالَ‏:‏ ‏{‏أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏‏.‏ ثُمَّ عَمَّرَ اللَّهُ أَرَمْيَا بَعْدَ ذَلِكَ، فَهُوَ الَّذِي يُرَى بِفَلَوَاتِ الْأَرْضِ وَالْبُلْدَانِ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَسْكَرٍ وَابْنُ زِنْجَوِيهْ، قَالَا حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ مَعْقِلٍ أَنَّهُ سَمِعَ وَهْبَ بْنَ مُنَبِّهٍ يَقُولُ‏:‏ أَوْحَى اللَّهُ إِلَى أَرَمْيَا وَهُوَ بِأَرْضِ مِصْرَ‏:‏ أَنِ الْحَقْ بِأَرْضِ إِيلِيَا، فَإِنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ لَكَ بِأَرْضِ مُقَامٍ، فَرَكِبَ حِمَارَهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ، وَمَعَهُ سَلَّةٌ مِنْ عِنَبٍ وَتِينٍ، وَكَانَ مَعَهُ سِقَاءٌ جَدِيدٌ فَمَلَأَهُ مَاءً‏.‏ فَلَمَّا بَدَا لَهُ شَخْصُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَمَا حَوْلَهُ مِنَ القُرَى وَالْمَسَاجِدِ، وَنَظَرَ إِلَى خَرَابٍ لَا يُوصَفُ، وَرَأَى هَدْمَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ كَالْجَبَلِ الْعَظِيمِ، قَالَ‏:‏ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا‏؟‏ وَسَارَ حَتَّى تَبَوَّأَ مِنْهَا مَنْـزِلًا فَرَبَطَ حِمَارَهُ بِحَبْلٍ جَدِيدٍ‏.‏ وَعَلَّقَ سِقَاءَهُ، وَأَلْقَى اللَّهُ عَلَيْهِ السُّبَاتَ‏;‏ فَلَمَّا نَامَ نَـزَعَ اللَّهُ رُوحَهُ مِائَةَ عَامٍ‏;‏ فَلَمَّا مَرَّتْ مِنَ المِائَةِ سَبْعُونَ عَامًا، أَرْسَلَ اللَّهُ مَلَكًا إِلَى مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ فَارِسٍ عَظِيمٍ يُقَالُ لَهُ‏:‏ يُوسَكُ“، فَقَالَ‏:‏ إِنْ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَنْفِرَ بِقَوْمِكَ فَتُعَمِّرَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَإِيلْيَا وَأَرْضَهَا، حَتَّى تَعُودَ أَعَمَرَ مَا كَانَتْ، فَقَالَ الْمَلِكُ‏:‏ أَنْظِرْنِي ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ حَتَّى أَتَأَهَّبَ لِهَذَا الْعَمَلِ وَلِمَا يُصْلِحُهُ مِنْ أَدَاءِ الْعَمَلِ، فَأَنْظَرَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَانْتَدَبَ ثَلَاثَمِائَةِ قَهْرَمَانَ، وَدَفَعَ إِلَى كُلِّ قَهْرَمَانَ أَلْفَ عَامِلٍ، وَمَا يُصْلِحُهُ مِنْ أَدَاةِ الْعَمَلِ، فَسَارَ إِلَيْهَا قَهَارِمَتُهُ، وَمَعَهُمْ ثَلَاثَمِائَةِ أَلْفِ عَامِلٍ‏;‏ فَلَمَّا وَقَعُوا فِي الْعَمَلِ، رَدَّ اللَّهُ رُوحَ الْحَيَاةِ فِي عَيْنِ أَرَمْيَا، وَآخِرُ جَسَدِهِ مَيِّتٌ، فَنَظَرَ إِلَى إِيلِيَا وَمَا حَوْلَهَا مِنَ القُرَى وَالْمَسَاجِدِ وَالْأَنْهَارِ والحُروثِ تَعْمَلُ وَتُعَمَّرُ وَتَتَجَدَّدُ، حَتَّى صَارَتْ كَمَا كَانَتْ‏.‏ وَبَعْدَ ثَلَاثِينَ سَنَةً تَمَامَ الْمِائَةِ، رَدَّ إِلَيْهِ الرُّوحَ، فَنَظَرَ إِلَى طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ لَمْ يَتَسَنَّهْ، وَنَظَرَ إِلَى حِمَارِهِ وَاقِفًا كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ رَبَطَهُ لَمْ يَطْعَمْ وَلَمْ يَشْرَبْ، وَنَظَرَ إِلَى الرُّمَّةِ فِي عُنُقِ الْحِمَارِ لَمْ تَتَغَيَّرْ جَدِيدَةً، وَقَدْ أَتَى عَلَى ذَلِكَ رِيحُ مِائَةِ عَامٍ، وَبَرْدُ مِائَةِ عَامٍ، وَحَرُّ مِائَةِ عَامٍ، لَمْ تَتَغَيَّرْ وَلَمْ تَنْتَقِضْ شَيْئًا، وَقَدْ نُحِلَ جِسْمُ أَرَمْيَا مِنَ البِلَى، فَأَنْبَتَ اللَّهُ لَهُ لَحْمًا جَدِيدًا، وَنَشَزَ عِظَامَهُ وَهُوَ يَنْظُرُ، فَقَالَ لَهُ اللَّهُ‏:‏ ‏(‏وَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلِمَا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏)‏‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ مَعْقِلٍ أَنَّهُ سَمِعَ وَهْبَ بْنَ مُنَبِّهٍ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا‏}‏‏:‏ أَنَّ أَرَمْيَا لَمَّا خُرِّبَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ وَحُرِّقَتِ الْكُتُبُ، وَقَفَ فِي نَاحِيَةِ الْجَبَلِ، فَقَالَ‏:‏ ‏{‏أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ‏}‏ ثُمَّ رَدَّ اللَّهُ مَنْ رَدَّ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى رَأْسِ سَبْعِينَ سَنَةً مِنْ حِينِ أَمَاتَهُ يُعَمِّرُونَهَا ثَلَاثِينَ سَنَةً تَمَامَ الْمِائَةِ‏;‏ فَلَمَّا ذَهَبَتِ الْمِائَةُ رَدَّ اللَّهُ رُوحَهُ وَقَدْ عُمِّرَتْ عَلَى حَالِهَا الْأُولَى، فَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ تَلْتَامُ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، ثُمَّ نَظَرَ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ تُكْسَى عَصَبًا وَلَحْمًا‏.‏ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ ذَلِكَ قَالَ‏:‏ ‏{‏أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏وَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ‏}‏ قَالَ‏:‏ فَكَانَ طَعَامُهُ تِينًا فِي مِكْتَلٍ، وَقُلَّةٌ فِيهَا مَاءٌ‏.‏

حَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرٌو، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏{‏أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا‏}‏ وَذَلِكَ أَنَّ عُزَيْرًا مَرَّ جَائِيًا مِنَ الشَّامِ عَلَى حِمَارٍ لَهُ مَعَهُ عَصِيرٌ وَعِنَبٌ وَتِينٌ‏;‏ فَلَمَّا مَرَّ بِالْقَرْيَةِ فَرَآهَا، وَقَفَ عَلَيْهَا وَقَلَّبَ يَدَهُ وَقَالَ‏:‏ كَيْفَ يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا‏؟‏ لَيْسَ تَكْذِيبًا مِنْهُ وَشَكًّا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ وَأَمَاتَ حِمَارَهُ فَهَلَكَا، وَمَرَّ عَلَيْهِمَا مِائَةُ سَنَةٍ‏.‏ ثُمَّ إِنْ اللَّهَ أَحْيَا عُزَيْرًا فَقَالَ لَهُ‏:‏ كَمْ لَبِثْتَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ‏!‏ قِيلَ لَهُ‏:‏ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ‏!‏ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ مِنَ التِّينِ وَالْعِنَبِ، وَشَرَابِكَ مِنَ العَصِيرِ ‏{‏لَمْ يَتَسَنَّهْ‏}‏ الْآيَةَ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏259‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏ثُمَّ بَعَثَهُ‏)‏، ثُمَّ أَثَارَهُ حَيًّا مِنْ بَعْدِ مَمَاتِهِ‏.‏

وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى مَعْنَى “ الْبَعْثِ“، فِيمَا مَضَى قَبْلُ‏.‏

وَأَمَّا مَعْنَى قَوْلِهِ ‏{‏كَمْ لَبِثْتَ‏}‏ فَإِنَّ “ كَمْ “ اسْتِفْهَامٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ عَنْ مَبْلَغِ الْعَدَدِ، وَهُوَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ نُصِبَ بِـ “ لَبِثْتَ“، وَتَأْوِيلُهُ‏:‏ قَالَ اللَّهُ لَهُ‏:‏ كَمْ قَدْرُ الزَّمَانِ الَّذِي لَبِثْتَ مَيِّتًا قَبْلَ أَنْ أَبْعَثَكَ مِنْ مَمَاتِكَ حَيًّا‏؟‏ قَالَ الْمَبْعُوثُ بَعْدَ مَمَاتِهِ‏:‏ لَبِثْتُ مَيِّتًا إِلَى أَنْ بَعَثَتْنِي حَيًّا يَوْمًا وَاحِدًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ‏.‏

وَذُكِرَ أَنَّ الْمَبْعُوثَ هُوَ أَرَمْيَا، أَوْ عُزَيْرٌ، أَوْ مَنْ كَانَ مِمَّنْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ هَذَا الْخَبَرَ‏.‏

وَإِنَّمَا قَالَ‏:‏ ‏{‏لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ‏}‏ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ كَانَ قَبَضَ رُوحَهُ أَوَّلَ النَّهَارِ، ثُمَّ رَدَّ رُوحَهُ آخِرَ النَّهَارِ بَعْدَ الْمِائَةِ عَامٍ فَقِيلَ لَهُ‏:‏ ‏(‏كَمْ لَبِثْتَ‏)‏‏؟‏ قَالَ‏:‏ لَبِثْتُ يَوْمًا‏;‏ وَهُوَ يَرَى أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ غَرَبَتْ‏.‏ فَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَهُ يَوْمًا لِأَنَّهُ ذُكِرَ أَنَّهُ قُبِضَ رُوحُهُ أَوَّلَ النَّهَارِ وَسُئِلَ عَنْ مِقْدَارِ لُبْثِهِ مَيِّتًا آخِرَ النَّهَارِ، وَهُوَ يَرَى أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ غَرَبَتْ، فَقَالَ‏:‏ ‏{‏لَبِثْتُ يَوْمًا‏}‏، ثُمَّ رَأَى بَقِيَّةً مِنَ الشَّمْسِ قَدْ بَقِيَتْ لَمْ تَغْرُبْ، فَقَالَ‏:‏ ‏{‏أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ‏}‏، بِمَعْنَى‏:‏ بَلْ بَعْضُ يَوْمٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ‏}‏ ‏[‏الصَّافَّاتِ‏:‏ 147‏]‏، بِمَعْنَى‏:‏ بَلْ يَزِيدُونَ‏.‏ فَكَانَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ‏}‏ رُجُوعًا مِنْهُ عَنْ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لَبِثْتُ يَوْمًا‏}‏‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ‏}‏، قَالَ‏:‏ ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ مَاتَ ضُحًى، ثُمَّ بَعَثَهُ قَبْلَ غَيْبُوبَةِ الشَّمْسِ، فَقَالَ‏:‏ ‏{‏لَبِثْتُ يَوْمًا‏}‏‏.‏ ثُمَّ الْتَفَتَ فَرَأَى بَقِيَّةً مِنَ الشَّمْسِ، فَقَالَ‏:‏ ‏{‏أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ‏}‏‏.‏ فَقَالَ‏:‏ ‏{‏بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا مُعَمِّرٌ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏{‏أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا‏}‏ قَالَ‏:‏ مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ فَتَعَجَّبَ، فَقَالَ‏:‏ ‏{‏أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا‏}‏ فَأَمَاتَهُ اللَّهُ أَوَّلَ النَّهَارِ، فَلَبِثَ مِائَةَ عَامٍ، ثُمَّ بَعَثَهُ فِي آخِرِ النَّهَارِ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏كَمْ لَبِثْتَ‏)‏‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏{‏لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ‏}‏، قَالَ‏:‏ ‏{‏بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ‏}‏‏.‏

حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ‏:‏ قَالَ الرَّبِيعُ‏:‏ أَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ، ثُمَّ بَعَثَهُ، قَالَ‏:‏ ‏(‏كَمْ لَبِثْتَ‏)‏‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏{‏لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ‏}‏‏.‏ قَالَ‏:‏ ‏{‏بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ‏:‏ لَمَّا وَقَفَ عَلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَقَدْ خَرَّبَهُ بَخْتَنْصَرُ، قَالَ‏:‏ ‏{‏أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا‏}‏ ‏!‏ كَيْفَ يُعِيدُهَا كَمَا كَانَتْ‏؟‏ فَأَمَاتَهُ اللَّهُ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ مَاتَ ضُحًى، وَبُعِثَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ بَعْدَ مِائَةِ عَامٍ، فَقَالَ‏:‏ ‏{‏كَمْ لَبِثْتَ‏}‏‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏يَوْمًا‏)‏‏.‏ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ، قَالَ‏:‏ ‏{‏أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏259‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَانْطُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ‏}‏ لَمْ تُغَيِّرْهُ السِّنونَ الَّتِي أَتَتْ عَلَيْهِ‏.‏

وَكَانَ طَعَامُهُ-فِيمَا ذَكَرَ بَعْضُهُمْ- سَلَّةَ تِينٍ وَعِنَبٍ، وَشَرَابُهُ قُلَّةَ مَاءٍ‏.‏

وَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ بَلْ كَانَ طَعَامُهُ سَلَّةَ عِنَبٍ وَسَلَّةَ تِينٍ، وَشَرَابُهُ زِقًّا مِنْ عَصِيرٍ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ كَانَ طَعَامُهُ سَلَّةَ تِينٍ، وَشَرَابُهُ دَنَّ خَمْرٍ-أَوْ زُكْرَةَ خَمْرٍ‏.‏

وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا مَضَى قَوْلَ بَعْضِهِمْ فِي ذَلِكَ، وَنَذْكُرُ مَا فِيهِ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏لَمْ يَتَسَنَّهْ‏}‏ فَفِيهِ وَجْهَانِ مِنَ القِرَاءَةِ‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ “لَمْ يَتَسَنَّ “ بِحَذْفِ “ الْهَاءِ “ فِي الْوَصْلِ، وَإِثْبَاتِهَا فِي الْوَقْفِ‏.‏ وَمَنْ قَرَأَهُ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ يَجْعَلُ الْهَاءَ فِي “ يَتَسَنَّهُ “ زَائِدَةً صِلَةً، كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ‏}‏ ‏[‏الْأَنْعَامِ‏:‏ 90‏]‏ وَجَعَلَ “ تَفَعَّلْتُ “ مِنْهُ‏:‏ “ تسنَّيْتُ تَسَنِّيًا“، وَاعْتَلَّ فِي ذَلِكَ بِأَنَّ “ السَّنَةَ “ تُجْمَعُ سَنَوَاتٍ، فَيَكُونُ “ تَفَعَّلْتُ “ عَلَى صِحَّةٍ‏.‏

وَمَنْ قَالَ فِي “ السَّنَةِ “ “ سُنَيْنَةً “ فَجَائِزٌ عَلَى ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا أَنْ يَكُونَ “ تسنَّيْتُ“‏.‏ “ تَفَعَّلْتُ“، بُدِّلَتِ النُّونُ يَاءً لَمَّا كَثُرَتِ النُّونَاتُ كَمَا قَالُوا‏:‏ “تَظَنَّيْتُ “ وَأَصْلُهُ “ الظَّنُّ“؛ وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ‏:‏ هُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ‏}‏ ‏[‏الْحِجْرِ‏:‏ 26، ‏]‏ وَهُوَ الْمُتَغَيِّرُ‏.‏ وَذَلِكَ أَيْضًا إِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَهُوَ أَيْضًا مِمَّا بُدِّلَتْ نُونُهُ يَاءً‏.‏

وَهُوَ قِرَاءَةُ عَامَّةِ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ‏.‏

وَالْآخَرُ مِنْهُمَا‏:‏ إِثْبَاتُ “ الْهَاءِ “ فِي الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ‏.‏ وَمَنْ قَرَأَهُ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَجْعَلُ “ الْهَاءَ “ فِي “ يَتَسَنَّهُ “ لَامَ الْفِعْلِ، وَيَجْعَلُهَا مَجْزُومَةً بِـ “ لَمْ“، وَيَجْعَلُ “ فَعَّلْتُ “ مِنْهُ‏:‏ “تَسَنَّهْتُ“، وَ“ يَفْعَلُ“‏:‏ “أَتَسَنَّهُ تَسَنُّهًا“، وَقَالَ فِي تَصْغِيرِ “ السَّنَةِ“‏:‏ “سُنَيْهَةً “ وَ“ سِنِّيَّةً“، “ أَسْنَيْتُ عِنْدَ الْقَوْمِ “ وَ“ أَسْنَهْتُ عِنْدَهُمْ “إِذَا أَقَمْتُ سَنَةً‏.‏

وَهَذِهِ قِرَاءَةُ عَامَّةِ قَرَأَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْحِجَازِ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَالصَّوَابُ مِنَ القِرَاءَةِ عِنْدِي فِي ذَلِكَ إِثْبَاتُ “ الْهَاءِ “ فِي الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ، لِأَنَّهَا مُثَبَّتَةٌ فِي مُصْحَفِ الْمُسْلِمِينَ، وَلِإِثْبَاتِهَا وَجْهٌ صَحِيحٌ فِي كِلْتَا الْحَالَتَيْنِ فِي ذَلِكَ‏.‏

وَمَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لَمْ يَتَسَنَّهْ‏}‏، لَمْ يَأْتِ عَلَيْهِ السُّنُونَ فَيَتَغَيَّرُ، عَلَى لُغَةِ مَنْ قَالَ‏:‏ “أَسَنَهْتُ عِنْدَكُمْ أَسْنَهُ“‏:‏ إِذَا أَقَامَ سَنَةً، وَكَمَا قَالَ الشَّاعِرُ‏:‏

وَلَيْسَـتْ بِسَـنْهَاءَ وَلَا رُجَّبِيَّـةٍ *** وَلكِـنْ عَرَايَـا فِـي السِّـنِينَ الْجَوَائِحِ

فَجَعْلَ “ الْهَاءَ “ فِي “ السَّنَةِ “ أَصْلًا وَهِيَ اللُّغَةُ الْفُصْحَى‏.‏

وَغَيْرُ جَائِزٍ حَذْفُ حَرْفٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فِي حَالِ وَقْفٍ أَوْ وَصْلٍ لِإِثْبَاتِهِ وَجْهٌ مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِهَا‏.‏

فَإِنِ اعْتَلَّ مُعْتَلٌّ بِأَنَّ الْمُصْحَفَ قَدْ أُلْحِقَتْ فِيهِ حُرُوفٌ هُنَّ زَوَائِدُ عَلَى نِيَّةِ الْوَقْفِ، وَالْوَجْهُ فِي الْأَصْلِ عِنْدَ الْقِرَاءَةِ حَذْفُهُنَّ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ‏}‏ ‏[‏الْأَنْعَامِ‏:‏ 90‏]‏ وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ‏}‏ ‏[‏الْحَاقَّةِ‏:‏ 25‏]‏ فَإِنَّ ذَلِكَ هُوَ مِمَّا لَمْ يَكُنْ فِيهِ شَكٌّ أَنَّهُ مِنَ الزَّوَائِدِ، وَأَنَّهُ أُلْحِقَ عَلَى نِيَّةِ الْوَقْفِ‏.‏ فَأَمَّا مَا كَانَ مُحْتَمِلًا أَنْ يَكُونَ أَصْلًا لِلْحَرْفِ غَيْرَ زَائِدٍ، فَغَيْرُ جَائِزٍ وَهُوَ فِي مُصْحَفِ الْمُسْلِمِينَ مُثَبَتٌ صَرْفُهُ إِلَى أَنَّهُ مِنَ الزَّوَائِدِ وَالصِّلَاتِ‏.‏

عَلَى أَنَّ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ زَائِدًا فِيمَا لَا شَكَّ أَنَّهُ مِنَ الزَّوَائِدِ، فَإِنَّ الْعَرَبَ قَدْ تَصِلُ الْكَلَامَ بِزَائِدٍ، فَتَنْطِقُ بِهِ عَلَى نَحْوِ مَنْطِقِهَا بِهِ فِي حَالِ الْقَطْعِ، فَيَكُونُ وَصْلُهَا إِيَّاهُ وَقِطَعُهَا سَوَاءً‏.‏ وَذَلِكَ مِنْ فِعْلِهَا دَلَالَةٌ عَلَى صِحَّةِ قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ جَمِيعَ ذَلِكَ بِإِثْبَاتِ “ الْهَاءِ “ فِي الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ‏.‏ غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ، فَلِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لَمْ يَتَسَنَّهْ‏}‏ حَكَمٌ مُفَارِقٌ حُكْمَ مَا كَانَ هَاؤُهُ زَائِدًا لَا شَكَّ فِي زِيَادَتِهِ فِيهِ‏.‏

وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَا، مِنْ أَنْ “ الْهَاءَ “ فِي “ يَتَسَنَّهْ “ مِنْ لُغَةِ مَنْ قَالَ‏:‏ “قَدْ أَسَنَهْتُ“، وَ“ الْمُسَانَهَةُ“، مَا‏:‏-

حُدِّثْتُ بِهِ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ سَلَامٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ أَبِي الْجَرَّاحِ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ عُمَيْرٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي هَانِئٌ مَوْلَى عُثْمَانَ، قَالَ‏:‏ كُنْتُ الرَّسُولَ بَيْنَ عُثْمَانَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، فَقَالَ زَيْدٌ‏:‏ سَلْهُ عَنْ قَوْلِهِ‏:‏ “لَمْ يَتَسَنَّ“، أَوْ “ لَمْ يَتَسَنَّهْ“، فَقَالَ عُثْمَانُ‏:‏ اجْعَلُوا فِيهَا “ هَاءً“‏.‏

حُدِّثْتُ عَنِ الْقَاسِمِ وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعَطَّارُ، عَنِ الْقَاسِمِ، وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ وَالْعَطَّارُ جَمِيعًا، عَنِ الْقَاسِمِ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ مَهْدِيٍّ، عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أَبُو وَائِلٍ شَيْخٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ عَنْ هَانِئٍ الْبَرْبَرِيِّ، قَالَ‏:‏ كُنْتُ عِنْدَ عُثْمَانَ وَهْمْ يَعْرِضُونَ الْمَصَاحِفَ، فَأَرْسَلَنِي بِكَتِفِ شَاةٍ إِلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فِيهَا‏:‏ “لَمْ يَتَسَنَّ “ وَ“ فَأَمْهِلِ الْكَافِرِينَ “ ‏[‏الطَّارِقِ‏:‏ 17‏]‏ وَ“ لَا تَبْدِيلَ لِلْخَلْقِ “ ‏[‏الرُّومِ‏:‏ 30‏]‏‏.‏ قَالَ‏:‏ فَدَعَا بِالدَّوَاةِ، فَمَحَا إِحْدَى اللَّامَيْنِ وَكَتَبَ ‏{‏لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ‏}‏ وَمَحَا “ فَأَمْهِلْ “ وَكَتَبَ ‏{‏فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ‏}‏ وَكَتَبَ‏:‏ ‏{‏لَمْ يَتَسَنَّهْ‏}‏ أَلْحَقَ فِيهَا الْهَاءَ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ “ يَتَسَنَّى “ أَوْ “ يَتَسَنَّنُ “ لَمَا أَلْحَقَ فِيهِ أُبَيٌّ “ هَاءً “ لَا مَوْضِعَ لَهَا فِيهِ، وَلَا أَمَرَ عُثْمَانُ بِإِلْحَاقِهَا فِيهَا‏.‏

وَقَدْ رُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ فِي ذَلِكَ نَحْوَ الَّذِي رُوِيَ فِيهِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَاخْتَلَفَ أَهْلُُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لَمْ يَتَسَنَّهْ‏}‏‏.‏

فَقَالَ بَعْضُهُمْ بِمِثْلِ الَّذِي قُلْنَا فِيهِ مِنْ أَنَّ مَعْنَاهُ‏:‏ لَمْ يَتَغَيَّرْ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَمَّنْ لَا يَتَّهِمُ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ‏:‏ ‏{‏لَمْ يَتَسَنَّهْ‏}‏ لَمْ يَتَغَيَّرْ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏لَمْ يَتَسَنَّهْ‏}‏ لَمْ يَتَغَيَّرْ‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا مُعَمِّرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، مِثْلَهُ‏.‏

حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرٌو، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏{‏فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ “فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ “ مِنَ التِّينِ وَالْعِنَبِ “ وَشَرَابِكَ “ مِنَ العَصِيرِ “ لَمْ يَتَسَنَّهْ“، يَقُولُ‏:‏ لَمْ يَتَغَيَّرْ فَيَحْمُضُ التِّينُ وَالْعِنَبُ، وَلَمْ يَخْتَمِرِ الْعَصِيرُ، هُمَا حُلْوَانِ كَمَا هُمَا‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّهُ مَرَّ جَائِيًا مِنَ الشَّامِ عَلَى حِمَارٍ لَهُ، مَعَهُ عَصِيرٌ وَعِنَبٌ وَتِينٌ، فَأَمَاتَهُ اللَّهُ، وَأَمَاتَ حِمَارَهُ، وَمَرَّ عَلَيْهِمَا مِائَةُ سَنَةٍ‏.‏

حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ الضَّحَاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ لَمْ يَتَغَيَّرْ، وَقَدْ أَتَى عَلَيْهِ مِائَةُ عَامٍ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو زُهَيْرٍ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَاكِ، بِنَحْوِهِ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏لَمْ يَتَسَنَّهْ‏}‏ لَمْ يَتَغَيَّرْ‏.‏

حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبِي، عَنِ النَّضْرِ، عَنْ عِكْرِمَةَ‏:‏ ‏{‏لَمْ يَتَسَنَّهْ‏}‏ لَمْ يَتَغَيَّرْ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ‏:‏ ‏{‏لَمْ يَتَسَنَّهْ‏}‏ لَمْ يَتَغَيَّرْ فِي مِائَةِ سَنَةٍ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنِي بَكْرُ بْنُ مُضَرَ، قَالَ‏:‏ يَزْعُمُونَ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ أَنَّ أَرَمْيَا كَانَ بِإِيلْيَا حِينَ خَرَّبَهَا بَخْتَنْصَرُ، فَخَرَجَ مِنْهَا إِلَى مِصْرَ فَكَانَ بِهَا‏.‏ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنِ اخْرُجْ مِنْهَا إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ‏.‏ فَأَتَاهَا فَإِذَا هِيَ خَرِبَةٌ، فَنَظَرَ إِلَيْهَا فَقَالَ‏:‏ “أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا“‏؟‏ فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ، فَإِذَا حِمَارُهُ حَيٌّ قَائِمٌ عَلَى رِبَاطِهِ، وَإِذَا طَعَامُهُ سَلُّ عِنَبٍ وَسَلُّ تِينٍ، لَمْ يَتَغَيَّرْ عَنْ حَالِهِ‏.‏

قَالَ يُونُسُ‏:‏ قَالَ لَنَا سَلَمُ الْخَوَاصُّ‏:‏ كَانَ طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ سَلُّ عِنَبٍ، وَسَلُّ تِينٍ، وَزِقُّ عَصِيرٍ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ لَمْ يُنَتِّنْ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏لَمْ يَتَسَنَّهْ‏}‏ لَمْ يُنَتِّنْ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلُهُ‏.‏

حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ مُجَاهِدٌ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏إِلَى طَعَامِكَ‏}‏ قَالَ‏:‏ سَلُّ تِينٍ ‏(‏وَشَرَابِكَ‏)‏، دَنُّ خَمْرٍ ‏{‏لَمْ يَتَسَنَّهْ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ لَمْ يُنَتِّنْ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَأَحْسَبُ أَنَّ مُجَاهِدًا وَالرَّبِيعَ وَمَنْ قَالَ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِمَا، رَأَوْا أَنَّ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏لَمْ يَتَسَنَّهْ‏}‏ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ‏}‏ ‏[‏الْحِجْرِ‏:‏ 26، ‏]‏ بِمَعْنَى الْمُتَغَيِّرِ الرِّيحِ بِالنَّتَنِ، مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ‏:‏ “تَسَنَّنَ“‏.‏ وَقَدْ بَيَّنْتُ الدَّلَالَةَ فِيمَا مَضَى عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ كَذَلِكَ‏.‏

فَإِنْ ظَنَّ ظَانٌّ أَنَّهُ مِنَ “ الْأَسَنِ “ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ‏:‏ “أَسِنَ هَذَا الْمَاءُ يَأْسَنُ أَسَنًا، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ‏}‏ ‏[‏مُحَمَّدٍ‏:‏ 15‏]‏، فَإِنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ، لَكَانَ الْكَلَامُ‏:‏ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَأَسَّنْ، وَلَمْ يَكُنْ “ يَتَسَنَّهْ“‏.‏

‏[‏فَإِنْ قِيلَ‏]‏‏:‏ فَإِنَّهُ مِنْهُ، غَيْرَ أَنَّهُ تُرِكَ هَمْزُهُ‏.‏

قِيلَ‏:‏ فَإِنَّهُ وَإِنْ تُرِكَ هَمْزُهُ، فَغَيْرُ جَائِزٍ تَشْدِيدُ نُونِهِ، لِأَنَّ “ النُّونَ “ غَيْرُ مُشَدَّدَةٍ، وَهِيَ فِي “ يَتَسَنَّهْ “ مُشَدَّدَةٌ، وَلَوْ نُطِقَ مِنْ “ يَتَأَسَّنُ “ بِتَرْكِ الْهَمْزَةِ لَقِيلَ‏:‏ “يَتَسَّنْ “ بِتَخْفِيفِ نُونِهِ بِغَيْرِ “ هَاءٍ “ تُلْحَقُ فِيهِ‏.‏ فَفِي ذَلِكَ بَيَانٌ وَاضِحٌ أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ مِنَ “ الْأَسَنِ“‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏259‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ‏}‏‏.‏

فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ وَانْظُرْ إِلَى إِحْيَائِي حِمَارَكَ، وَإِلَى عِظَامِهِ كَيْفَ أُنْشِزُهَا ثُمَّ أَكْسُوهَا لَحْمًا‏.‏

ثُمَّ اخْتَلَفَ مُتَأَوِّلُو ذَلِكَ فِي هَذَا التَّأْوِيلِ‏.‏

فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ ذَلِكَ لَهُ، بَعْدَ أَنْ أَحْيَاهُ خَلْقًا سَوِيًّا، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُحْيِيَ حِمَارَهُ تَعْرِيفًا مِنْهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لَهُ كَيْفِيَّةَ إِحْيَائِهِ الْقَرْيَةَ الَّتِي رَآهَا خَاوِيَةً عَلَى عُرُوشِهَا، فَقَالَ‏:‏ ‏{‏أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا‏}‏‏؟‏ مُسْتَنْكِرًا إِحْيَاءَ اللَّهِ إِيَّاهَا‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَمَّنْ لَا يَتَّهِمُ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ‏:‏ بَعَثَهُ اللَّهُ فَقَالَ‏:‏ ‏{‏كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ‏}‏ إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا‏}‏ قَالَ‏:‏ فَنَظَرَ إِلَى حِمَارِهِ يَاتَصِلُ بَعْضٌ إِلَى بَعْضٍ‏.‏ وَقَدْ كَانَ مَاتَ مَعَهُ بِالْعُرُوقِ وَالْعَصَبِ، ثُمَّ كَسَا ذَلِكَ مِنْهُ اللَّحْمَ حَتَّى اسْتَوَى ثُمَّ جَرَى فِيهِ الرُّوحُ، فَقَامَ يَنْهَقُ‏.‏ وَنَظَرَ إِلَى عَصِيرِهِ وَتِينِهِ، فَإِذَا هُوَ عَلَى هَيْئَتِهِ حِينَ وَضَعَهُ لَمْ يَتَغَيَّرْ‏.‏ فَلَمَّا عَايَنَ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ مَا عَايَنَ، قَالَ‏:‏ ‏{‏أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرٌو، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ثُمَّ إِنْ اللَّهَ أَحْيَا عُزَيْرًا، فَقَالَ‏:‏ كَمْ لَبِثْتَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ‏.‏ قَالَ‏:‏ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ‏!‏ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ، وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ قَدْ هَلَكَ وَبَلِيَتْ عِظَامُهُ، وَانْظُرْ إِلَى عِظَامِهِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا‏.‏

فَبَعَثَ اللَّهُ رِيحًا، فَجَاءَتْ بِعِظَامِ الْحِمَارِ مِنْ كُلِّ سَهْلٍ وَجَبَلٍ ذَهَبَتْ بِهِ الطَّيْرُ وَالسِّبَاعُ، فَاجْتَمَعَتْ، فَرَكَّبَ بَعْضَهَا فِي بَعْضٍ وَهُوَ يَنْظُرُ، فَصَارَ حِمَارًا مِنْ عِظَامٍ لَيْسَ لَهُ لَحْمٌ وَلَا دَمٌ‏.‏ ثُمَّ إِنْ اللَّهَ كَسَا الْعِظَامَ لَحْمًا وَدَمًا، فَقَامَ حِمَارًا مِنْ لَحْمٍ وَدَمٍ وَلَيْسَ فِيهِ رُوحٌ‏.‏ ثُمَّ أَقْبَلَ مَلَكٌ يَمْشِي حَتَّى أَخَذَ بِمِنْخَرِ الْحِمَارِ، فَنَفَخَ فِيهِ فَنَهَقَ الْحِمَارُ، فَقَالَ‏:‏ ‏{‏أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ عَلَى مَا تَأَوَّلَهُ قَائِلُ هَذَا الْقَوْلِ‏:‏ وَانْظُرْ إِلَى إِحْيَائِنَا حِمَارَكَ، وَإِلَى عِظَامِهِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا، وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ فَيَكُونُ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ‏}‏، مَتْرُوكٌ مِنَ الكَلَامِ، اسْتُغْنِيَ بِدَلَالَةِ ظَاهِرِهِ عَلَيْهِ مِنْ ذِكْرِهِ، وَتَكُونُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ‏}‏ بَدَلًا مِنِ “ الْهَاءِ “ الْمُرَادَةِ فِي الْمَعْنَى، لِأَنَّ مَعْنَاهُ‏:‏ وَانْظُرْ إِلَى عِظَامِهِ- يَعْنِي‏:‏ إِلَى عِظَامِ الْحِمَارِ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ‏:‏ بَلْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ ذَلِكَ لَهُ بَعْدَ أَنْ نَفَخَ فِيهِ الرُّوحَ فِي عَيْنِهِ‏.‏ قَالُوا‏:‏ وَهِيَ أَوَّلُ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ نَفَخَ اللَّهُ فِيهِ الرُّوحَ، وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ سَوَّاهُ خَلْقًا سَوِيًّا، وَقَبْلَ أَنْ يُحْيِِيَ حِمَارَهُ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ‏:‏ كَانَ هَذَا رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ نَفَخَ الرُّوحَ فِي عَيْنَيْهِ، فَيَنْظُرُ إِلَى خَلْقِهِ كُلِّهِ حِينَ يُحْيِيهِ اللَّهُ، وَإِلَى حِمَارِهِ حِينَ يُحْيِيهِ اللَّهُ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مَثَلَهُ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ‏:‏ بَدَأَ بِعَيْنَيْهِ فَنَفَخَ فِيهِمَا الرُّوحَ، ثُمَّ بِعِظَامِهِ فَأَنْشَزَهَا، ثُمَّ وَصَلَ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ، ثُمَّ كَسَاهَا الْعَصَبَ، ثُمَّ الْعُرُوقَ، ثُمَّ اللَّحْمَ‏.‏ ثُمَّ نَظَرَ إِلَى حِمَارِهِ، فَإِذَا حِمَارُهُ قَدْ بَلِيَ وَابْيَضَّتْ عِظَامُهُ فِي الْمَكَانِ الَّذِي رَبَطَهُ فِيهِ، فَنُودِيَ‏:‏ “يَا عِظَامُ اجْتَمِعِي، فَإِنَّ اللَّهَ مُنْـزِلٌ عَلَيْكِ رُوحًا“، فَسَعَى كُلُّ عَظْمٍ إِلَى صَاحِبِهِ، فَوَصَلَ الْعِظَامَ، ثُمَّ الْعَصَبَ، ثُمَّ الْعُرُوقَ ثُمَّ اللَّحْمَ، ثُمَّ الْجِلْدَ، ثُمَّ الشَّعْرَ، وَكَانَ حِمَارُهُ جَذَعًا، فَأَحْيَاهُ اللَّهُ كَبِيرًا قَدْ تَشَنَّنَ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُ إِلَّا الْجِلْدُ مِنْ طُولِ الزَّمَنِ‏.‏ وَكَانَ طَعَامُهُ سَلَّ عِنَبٍ، وَشَرَابُهُ دَنَّ خَمْرٍ‏.‏ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ نُفِخَ الرُّوحُ فِي عَيْنَيْهِ، ثُمَّ نَظَرَ بِهِمَا إِلَى خَلْقِهِ كُلِّهِ حِينَ نَشَرَهُ اللَّهُ، وَإِلَى حِمَارِهِ حِينَ يُحْيِيهِ اللَّهُ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ جَعَلَ اللَّهُ الرَّوْحَ فِي رَأْسِهِ وَبَصَرِهِ، وَجَسَدُهُ مَيِّتٌ، فَرَأَى حِمَارَهُ قَائِمًا كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ رَبَطَهُ، وَطَعَامَهُ وَشَرَابَهُ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ حَلَّ الْبُقْعَةَ‏.‏ ثُمَّ قَالَ اللَّهُ لَهُ‏:‏ انْظُرْ إِلَى عِظَامِ نَفْسِكَ كَيْفَ نُنْشِزُهَا‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَهْلِ بْنِ عَسْكَرٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ مَعْقِلٍ أَنَّهُ سَمِعَ وَهْبَ بْنَ مُنَبِّهٍ يَقُولُ‏:‏ رَدَّ اللَّهُ رُوحَ الْحَيَاةِ فِي عَيْنِ أَرَمْيَا وَآخِرُ جَسَدِهِ مَيِّتٌ، فَنَظَرَ إِلَى طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ لَمْ يَتَسَنَّهْ، وَنَظَرَ إِلَى حِمَارِهِ وَاقِفًا كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ رَبَطَهُ، لَمْ يَطْعَمْ وَلَمْ يَشْرَبْ، وَنَظَرَ إِلَى الرُّمَّةِ فِي عُنُقِ الْحِمَارِ لَمْ تَتَغَيَّرْ، جَدِيدَةً‏.‏

حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ الضَّحَاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ‏}‏، فَنَظَرَ إِلَى حِمَارِهِ قَائِمًا قَدْ مَكَثَ مِائَةَ عَامٍ، وَإِلَى طَعَامِهِ لَمْ يَتَغَيَّرْ قَدْ أَتَى عَلَيْهِ مِائَةُ عَامٍ ‏{‏وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا‏}‏ فَكَانَ أَوَّلَ شَيْءٍ أَحْيَا اللَّهُ مِنْهُ رَأْسُهُ، فَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَى سَائِرِ خَلْقِهِ يُخْلَقُ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو زُهَيْرٍ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَاكِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ‏}‏ فَنَظَرَ إِلَى حِمَارِهِ قَائِمًا، وَإِلَى طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ لَمْ يَتَغَيَّرْ، فَكَانَ أَوَّلَ شَيْءٍ خُلِقَ مِنْهُ رَأْسُهُ، فَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَى كُلِّ شَيْءٍ مِنْهُ يُوَصَلُ بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ‏.‏ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ، قَالَ‏:‏ ‏{‏أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ‏:‏ ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْهُ رَأْسُهُ، ثُمَّ رِكِّبَتْ فِيهِ عَيْنَاهُ، ثُمَّ قِيلَ لَهُ‏:‏ انْظُرْ‏!‏ فَجَعَلَ يَنْظُرُ، فَجَعَلَتْ عِظَامَهُ تَواصَلُ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، وَبِعَيْنِ نَبِيِّ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ ذَلِكَ، فَقَالَ‏:‏ ‏{‏أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏‏.‏

حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ‏:‏ ‏{‏وَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ‏}‏ وَكَانَ حِمَارُهُ عِنْدَهُ كَمَا هُوَ ‏{‏وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ‏}‏ ‏{‏وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا‏}‏‏.‏ قَالَ الرَّبِيعُ‏:‏ ذُكِرَ لَنَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُ أَوَّلُ مَا خُلِقَ مِنْهُ عَيْنَاهُ، ثُمَّ قِيلَ انْظُرْ‏!‏ فَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَى الْعِظَامِ يَتَوَاصَلُ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، وَذَلِكَ بِعَيْنَيْهِ، فَقَالَ‏:‏ ‏{‏أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ زَيْدٍ قَالَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ‏}‏ وَاقِفًا عَلَيْكَ مُنْذُ مِائَةِ سَنَةٍ ‏{‏وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَانْظُرْ إِلَى عِظَامِكَ كَيْفَ نُحْيِيهَا حِينَ سَأَلْتَنَا‏:‏ “كَيْفَ نُحْيِي هَذِهِ“‏؟‏‏.‏ قَالَ‏:‏ فَجَعَلَ اللَّهُ الرَّوْحَ فِي بَصَرِهِ وَفِي لِسَانِهِ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ ادْعُ الْآنَ بِلِسَانِكَ الَّذِي جَعَلَ اللَّهُ فِيهِ الرَّوْحَ، وَانْظُرْ بِبَصَرِكَ‏.‏ قَالَ‏:‏ فَكَانَ يَنْظُرُ إِلَى الْجُمْجُمَةِ‏.‏ قَالَ‏:‏ فَنَادَى‏:‏ لِيَلْحَقْ كُلُّ عَظْمٍ بِأَلِيفِهِ‏.‏ قَالَ‏:‏ فَجَاءَ كُلُّ عَظْمٍ إِلَى صَاحِبِهِ، حَتَّى اتَّصَلَتْ وَهُوَ يَرَاهَا، حَتَّى إِنَّ الْكِسْرَةَ مِنَ العَظْمِ لَتَأْتِي إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي انْكَسَرَتْ مِنْهُ، فَتَلْصَقُ بِهِ حَتَّى وَصَلَ إِلَى جُمْجُمَتِهِ، وَهُوَ يَرَى ذَلِكَ‏.‏ فَلَمَّا اتَّصَلَتْ شَدَّهَا بِالْعَصَبِ وَالْعُرُوقِ، وَأَجْرَى عَلَيْهَا اللَّحْمَ وَالْجِلْدَ، ثُمَّ نَفَخَ فِيهَا الرُّوحَ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏{‏انْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا‏}‏ فِلْمًا تَبَيَّنَ لَهُ ذَلِكَ، ‏{‏قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏‏.‏ قَالَ‏:‏ ثُمَّ أُمِرَ فَنَادَى تِلْكَ الْعِظَامَ الَّتِي قَالَ‏:‏ ‏{‏أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا‏}‏ كَمَا نَادَى عِظَامَ نَفْسِهِ، ثُمَّ أَحْيَاهَا اللَّهُ كَمَا أَحْيَاهُ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنِي بَكْرُ بْنُ مُضَرَ، قَالَ‏:‏ يَزْعُمُونَ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ أَنَّ اللَّهَ أَمَاتَ أَرَمْيَا مِائَةَ عَامٍ، ثُمَّ بَعَثَهُ، فَإِذَا حِمَارُهُ حَيٌّ قَائِمٌ عَلَى رِبَاطِهِ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَرَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِ بَصَرَهُ، وَجَعَلَ الرُّوحَ فِيهِ قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ بِثَلَاثِينَ سَنَةً، ثُمَّ نَظَرَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَكَيْفَ عُمِّرَ وَمَا حَوْلَهُ‏.‏ قَالَ‏:‏ فَيَقُولُونَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏:‏ إِنَّهُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ‏}‏، الْآيَةَ‏.‏

وَمَعْنَى الْآيَةِ عَلَى تَأْوِيلِ هَؤُلَاءِ‏:‏ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ، وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ، وَانْظُرْ إِلَى عِظَامِكَ كَيْفَ نُنْشِزُهَا بَعْدَ بِلَاهَا، ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا، فَنُحْيِيهَا بِحَيَاتِكَ، فَتَعْلَمُ كَيْفَ يُحْيِي اللَّهُ الْقُرَى وَأَهْلَهَا بَعْدَ مَمَاتِهَا‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالصَّوَابِ قَوْلُ مَنْ قَالَ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ بَعَثَ قَائِلَ‏:‏ ‏{‏أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا‏}‏ مِنْ مَمَاتِهِ، ثُمَّ أَرَاهُ نَظِيرَ مَا اسْتَنْكَرَ مِنْ إِحْيَاءِ اللَّهِ الْقَرْيَةَ الَّتِي مَرَّ بِهَا بَعْدَ مَمَاتِهَا عَيَانًا مِنْ نَفْسِهِ وَطَعَامِهِ وَحِمَارِهِ‏.‏ فَجَعَلَ تَعَالَى ذِكْرُهُ مَا أَرَاهُ مِنْ إِحْيَائِهِ نَفْسَهُ وَحِمَارَهُ مَثَلًا لِمَا اسْتَنْكَرَ مِنْ إِحْيَائِهِ أَهْلَ الْقَرْيَةِ الَّتِي مَرَّ بِهَا خَاوِيَةً عَلَى عُرُوشِهَا، وَجَعَلَ مَا أَرَاهُ مِنَ العِبْرَةِ فِي طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ، عِبْرَةً لَهُ وَحُجَّةً عَلَيْهِ فِي كَيْفِيَّةِ إِحْيَائِهِ مَنَازِلَ الْقَرْيَةِ وَجِنَانَهَا‏.‏ وَذَلِكَ هُوَ مَعْنَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ‏.‏

وَإِنَّمَا قُلْنَا‏:‏ ذَلِكَ أَوْلَى بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ‏}‏ إِنَّمَا هُوَ بِمَعْنَى‏:‏ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ الَّتِي تَرَاهَا بِبَصَرِكَ كَيْفَ نُنْشِزُهَا، ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا‏.‏

وَقَدْ كَانَ حِمَارُهُ أَدْرَكَهُ مِنَ البِلَى فِي قَوْلِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ جَمِيعًا نَظِيرُ الَّذِي لَحِقَ عِظَامَ مَنْ خُوطِبَ بِهَذَا الْخِطَابِ، فَلَمْ يُمْكِنْ صَرْفُ مَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ‏}‏ إِلَى أَنَّهُ أَمْرٌ لَهُ بِالنَّظَرِ إِلَى عِظَامِ الْحِمَارِ دُونَ عِظَامِ الْمَأْمُورِ بِالنَّظَرِ إِلَيْهَا، وَلَا إِلَى أَنَّهُ أَمْرٌ لَهُ بِالنَّطَرِ إِلَى عِظَامِ نَفْسِهِ دُونَ عِظَامِ الْحِمَارِ‏.‏وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، وَكَانَ الْبِلَى قَدْ لَحِقَ عِظَامَهُ وَعِظَامَ حِمَارِهِ، كَانَ الْأَوْلَى بِالتَّأْوِيلِ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ بِالنَّظَرِ إِلَى كُلِّ مَا أَدْرَكَهُ طَرَفُهُ مِمَّا قَدْ كَانَ الْبِلَى لِحَقَهُ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ جَعَلَ جَمِيعَ ذَلِكَ عَلَيْهِ حُجَّةً وَلَهُ عِبْرَةً وَعِظَةً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏259‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِذَلِكَ‏:‏ ‏{‏وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ‏}‏ أَمَتْنَاكَ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثْنَاكَ‏.‏

وَإِنَّمَا أُدْخِلَتِ “ الْوَاوُ “ مَعَ اللَّامِ الَّتِي فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ‏}‏ وَهُوَ بِمَعْنَى “ كَيْ“، لِأَنَّ فِي دُخُولِهَا فِي كَيْ وَأَخَوَاتِهَا دِلَالَةً عَلَى أَنَّهَا شَرْطٌ لِفِعْلٍ بَعْدَهَا، بِمَعْنَى‏:‏ وَلِنَجْعَلَكَ كَذَا وَكَذَا فَعَلْنَا ذَلِكَ‏.‏ وَلَوْ لَمْ تَكُنْ قَبْلَ “ اللَّامِ “ أَعْنِي “ لَامَ “ كَيْ “ وَاوٌ“، كَانَتِ “ اللَّامُ “ شَرْطًا لِلْفِعْلِ الَّذِي قَبْلَهَا، وَكَانَ يَكُونُ مَعْنَاهُ‏:‏ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ، لِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ‏.‏

وَإِنَّمَا عَنَى بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً‏}‏، وَلِنَجْعَلَكَ حُجَّةً عَلَى مَنْ جَهِلَ قُدْرَتِي، وَشَكَّ فِي عَظَمَتِي، وَأَنَا الْقَادِرُ عَلَى فِعْلِ مَا أَشَاءُ مِنْ إِمَاتَةٍ وَإِحْيَاءٍ، وَإِنْشَاءٍ، وَإِنْعَامٍ وَإِذْلَالٍ، وَإِقْتَارٍ وَإِغْنَاءٍ، بِيَدِي ذَلِكَ كُلُّهُ، لَا يَمْلِكُهُ أَحَدٌ دُونِي، وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرِي‏.‏

وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ يَقُولُ‏:‏ كَانَ آيَةً لِلنَّاسِ، بِأَنَّهُ جَاءَ بَعْدَ مِائَةِ عَامٍ إِلَى وَلَدِهِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ، شَابًّا وَهُمْ شُيُوخٌ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ سُفْيَانَ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ الْأَعْمَشَ يَقُولُ‏:‏ ‏{‏وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ‏}‏ قَالَ‏:‏ جَاءَ شَابًّا وَوَلَدُهُ شُيُوخٌ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ جَاءَ وَقَدْ هَلَكَ مَنْ يَعْرِفُهُ، فَكَانَ آيَةً لِمَنْ قَدِمَ عَلَيْهِ مِنْ قَوْمِهِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرٌو، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ‏:‏ رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ، فَوَجَدَ دَارَهُ قَدْ بِيعَتْ وَبُنِيَتْ، وَهَلَكَ مَنْ كَانَ يَعْرِفُهُ، فَقَالَ‏:‏ اخْرُجُوا مِنْ دَارِي‏!‏ قَالُوا‏:‏ وَمَنْ أَنْتَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ أَنَا عُزَيْرٌ ‏!‏ قَالُوا‏:‏ أَلَيْسَ قَدْ هَلَكَ عُزَيْرٌ مُنْذُ كَذَا وَكَذَا‏!‏‏!‏ قَالَ‏:‏ فَإِنَّ عُزَيْرًا أَنَا هُوَ، كَانَ مِنْ حَالِي وَكَانَ‏!‏ فَلَمَّا عَرَفُوا ذَلِكَ، خَرَجُوا لَهُ مِنَ الدَّارِ وَدَفَعُوهَا إِلَيْهِ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَالَّذِي هُوَ أَوْلَى بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ مِنَ القَوْلِ، أَنْ يُقَالَ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ، أَخْبَرَ أَنَّهُ جَعَلَ الَّذِي وَصَفَ صِفَتَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ حُجَّةً لِلنَّاسِ، فَكَانَ ذَلِكَ حُجَّةً عَلَى مَنْ عَرَفَهُ مِنْ وَلَدِهِ وَقَوْمِهِ مِمَّنْ عَلِمَ مَوْتَهُ، وَإِحْيَاءَ اللَّهِ إِيَّاهُ بَعْدَ مَمَاتِهِ، وَعَلَى مَنْ بُعِثَ إِلَيْهِ مِنْهُمْ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏259‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ دَلَّلْنَا فِيمَا مَضَى قَبْلُ عَلَى أَنَّ الْعِظَامَ الَّتِي أُمِرَ بِالنَّظَرِ إِلَيْهَا، هِيَ عِظَامُ نَفْسِهِ وَحِمَارِهِ، وَذَكَرْنَا اخْتِلَافَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ، وَمَا يَعْنِي كُلُّ قَائِلٍ بِمَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏كَيْفَ نُنْشِزُهَا‏}‏ فَإِنَّ الْقَرَأَةَ اخْتَلَفَتْ فِي قِرَاءَتِهِ‏.‏

فَقَرَأَ بَعْضُهُمْ‏:‏ ‏{‏وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا‏}‏ بِضَمِّ النُّونِ وَبِالزَّايِ، وَذَلِكَ قِرَاءَةُ عَامَّةِ قَرَأَةِ الْكُوفِيِّينَ، بِمَعْنَى‏:‏ وَانْظُرْ كَيْفَ نُرَكِّبُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَنَنْقُلُ ذَلِكَ إِلَى مَوَاضِعَ مِنَ الجِسْمِ‏.‏

وَأَصْلُ “ النُّشُوزِ“‏:‏ الِارْتِفَاعُ، وَمِنْهُ قِيل‏:‏ “قَدْ نَشَزَ الْغُلَامُ“، إِذَا ارْتَفَعَ طُولُهُ وَشَبَّ، وَمِنْهُ “ نُشُوزُ الْمَرْأَةِ “ عَلَى زَوْجِهَا‏.‏ وَمِنْ ذَلِكَ قِيلَ لِلْمَكَانِ الْمُرْتَفِعِ مِنَ الْأَرْضِ‏:‏ “نَشَزَ وَنَشْزٌ وَنَشَازٌ“، فَإِذَا أَرَدْتَ أَنَّكَ رَفَعْتَهُ، قُلْتَ‏:‏ “أَنْشَزْتُهُ إِنْشَازًا“، وَ“ نَشَزَ هُوَ“، إِذَا ارْتَفَعَ‏.‏

فَمَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا‏}‏ فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ ذَلِكَ بِالزَّايِ‏:‏ كَيْفَ نَرْفَعُهَا مِنْ أَمَاكِنِهَا مِنَ الْأَرْضِ فَنَرُدُّهَا إِلَى أَمَاكِنِهَا مِنَ الجَسَدِ‏.‏

وَمِمَّنْ تَأَوَّلَ ذَلِكَ هَذَا التَّأْوِيلَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏كَيْفَ نُنْشِزُهَا‏}‏ كَيْفَ نُخْرِجُهَا‏.‏

حَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرٌو، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏{‏كَيْفَ نُنْشِزُهَا‏}‏ قَالَ‏:‏ نُحَرِّكُهَا‏.‏

وَقَرَأَ ذَلِكَ آخَرُونَ‏:‏ “وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِرُهَا “ بِضَمِّ النُّونِ‏.‏ قَالُوا‏:‏ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ‏:‏ “أَنْشَرَ اللَّهُ الْمَوْتَى فَهُوَ يُنشِرُهُمْ إِنْشَارًا“، وَذَلِكَ قِرَاءَةُ عَامَّةِ قَرَأَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، بِمَعْنَى‏:‏ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُحْيِيهَا، ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ “كَيْفَ نُنْشِرُهَا “ قَالَ‏:‏ انْظُرْ إِلَيْهَا حِينَ يُحْيِيهَا اللَّهُ‏.‏

حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مَثَلَهُ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ مَثَلَهُ‏.‏

حَدَّثَنَا يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ “ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِرُهَا “ قَالَ‏:‏ كَيْفَ نُحْيِيهَا‏.‏

وَاحْتَجَّ بَعْضُ قَرَأَةِ ذَلِكَ بِالرَّاءِ وَضَمِّ نُونِ أَوَّلِهِ، بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ‏}‏ ‏[‏عَبَسَ‏:‏ 22‏]‏، فَرَأَى أَنَّ مِنَ الصَّوَابِ إِلْحَاقَ قَوْلِهِ‏:‏ “وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِرُهَا “ بِهِ‏.‏

وَقَرَأَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ‏:‏ “وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نَنْشُرُهَا“، بِفَتْحِ النُّونِ مِنْ أَوَّلِهِ وَبِالرَّاءِ‏.‏ كَأَنَّهُ وَجَّهَ ذَلِكَ إِلَى مِثْلِ مَعْنَى‏:‏ نَشْرِ الشَّيْءِ وَطَيِّهِ‏.‏ وَذَلِكَ قِرَاءَةٌ غَيْرُ مَحْمُودَةٍ، لِأَنَّ الْعَرَبَ لَا تَقُولُ‏:‏ نَشَرَ الْمَوْتَى، وَإِنَّمَا تَقُولُ‏:‏ “أَنْشَرَ اللَّهُ الْمَوْتَى“، فَنَشَرُوا هُمْ “ بِمَعْنَى‏:‏ أَحْيَاهُمْ فَحَيُوا هُمْ‏.‏ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ‏}‏ وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ‏}‏ ‏[‏الْأَنْبِيَاءِ‏:‏ 21‏]‏ وَعَلَى أَنَّهُ إِذَا أُرِيدَ بِهِ حَيِيَ، الْمَيِّتُ وَعَاشَ بَعْدَ مَمَاتِهِ، قِيلَ‏:‏ “نَشَرَ“، وَمِنْهُ قَوْلُ أَعْشَى بَنِي ثَعْلَبَةَ‏:‏

حَـتَّى يَقُـولَ النَّـاسُ مِمَّـا رَأَوْا‏:‏ *** يَـا عَجَبًـا لِلْمَيِّـتِ النَّاشِـرِ

وَرُوِيَ سَمَاعًا مِنْ الْعَرَبِ‏:‏ “كَانَ بِهِ جَرَبٌ فَنَشَرَ“، إِذَا عَادَ وَحَيِيَ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ عِنْدِي أَنَّ مَعْنَى “ الْإِنْشَازِ “ وَمَعْنَى “ الْإِنْشَارِ “ مُتَقَارِبَانِ، لِأَنَّ مَعْنَى “ الْإِنْشَازِ“‏:‏ التَّرْكِيبُ وَالْإِثْبَاتُ وَرَدُّ الْعِظَامِ إِلَى الْعِظَامِ، وَمَعْنَى “ الْإِنْشَارِ “ إِعَادَةُ الْحَيَاةِ إِلَى الْعِظَامِ‏.‏ وَإِعَادَتُهَا لَا شَكَّ أَنَّهُ رَدُّهَا إِلَى أَمَاكِنِهَا وَمَوَاضِعِهَا مِنَ الجَسَدِ بَعْدَ مُفَارَقَتِهَا إِيَّاهَا‏.‏ فَهُمَا وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي اللَّفْظِ، فَمُتَقَارِبَا الْمَعْنَى‏.‏ وَقَدْ جَاءَتْ بِالْقِرَاءَةِ بِهِمَا الْأُمَّةُ مَجِيئًا يَقْطَعُ الْعُذْرَ وَيُوجِبُ الْحُجَّةَ، فَبِأَيِّهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ، لِانْقِيَادِ مَعْنَيَيْهِمَا، وَلَا حُجَّةَ تُوجِبُ لِإِحْدَاهُمَا الْقَضَاءَ بِالصَّوَابِ عَلَى الْأُخْرَى‏.‏

فَإِنْ ظَنَّ ظَانٌّ أَنَّ “ الْإِنْشَارَ “ إِذَا كَانَ إِحْيَاءً، فَهُوَ بِالصَّوَابِ أَوْلَى، لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِالنَّظَرِ إِلَى الْعِظَامِ وَهِيَ تُنْشَرُ إِنَّمَا أُمِرَ بِهِ لِيَرَى عَيَانًا مَا أَنْكَرَهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا‏}‏‏؟‏ ‏[‏فَقَدْ أَخْطَأَ‏]‏‏.‏ فَإِنَّ إِحْيَاءَ الْعِظَامِ لَا شَكَّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، إِنَّمَا عُنِيَ بِهِ رَدُّهَا إِلَى أَمَاكِنِهَا مِنْ جَسَدِ الْمَنْظُورِ إِلَيْهِ، وَهُوَ يُحْيِى، لِإِعَادَةِ الرُّوحِ الَّتِي كَانَتْ فَارَقَتْهَا عِنْدَ الْمَمَاتِ‏.‏ وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا‏}‏‏.‏ وَلَا شَكَّ أَنَّ الرُّوحَ إِنَّمَا نُفِخَتْ فِي الْعِظَامِ الَّتِي أُنْشِزَتْ بَعْدَ أَنْ كُسِيَتِ اللَّحْمَ‏.‏

وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، وَكَانَ مَعْنَى “ الْإِنْشَازِ “ تَرْكِيبُ الْعِظَامِ وَرَدُّهَا إِلَى أَمَاكِنِهَا مِنَ الجَسَدِ، وَكَانَ ذَلِكَ مَعْنَى “ الْإِنْشَارِ“‏.‏ وَكَانَ مَعْلُومًا اسْتِوَاءُ مَعْنَيَيْهِمَا، وَأَنَّهُمَا مُتَّفِقَا الْمَعْنَى لَا مُخْتَلِفَاهُ، فَفِي ذَلِكَ إِبَانَةٌ عَنْ صِحَّةِ مَا قُلْنَا فِيهِ‏.‏

وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ الثَّالِثَةُ، فَغَيْرُ جَائِزَةٍ الْقِرَاءَةُ بِهَا عِنْدِي، وَهِيَ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ‏:‏ “كَيْفَ نَنْشُرُهَا “ بِفَتْحِ النُّونِ وَبِالرَّاءِ، لِشُذُوذِهَا عَنْ قِرَاءَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَخُرُوجِهَا عَنِ الصَّحِيحِ الْفَصِيحِ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏259‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏ثُمَّ نَكْسُوهَا‏)‏ أَيِ الْعِظَامُ ‏(‏لَحْمًا‏)‏، وَ“ الْهَاءُ “ الَّتِي فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا‏}‏ مِنْ ذِكْرِ الْعِظَامِ‏.‏

وَمَعْنَى “ نَكْسُوهَا“‏:‏ نُلْبِسُهَا وَنُوَارِيهَا بِهِ كَمَا يُوَارِي جَسَدَ الْإِنْسَانِ كُسْوَتُهُ الَّتِي يَلْبَسُهَا‏.‏ وَكَذَلِكَ تَفْعَلُ الْعَرَبُ، تَجْعَلُ كُلَّ شَيْءٍ غَطَّى شَيْئًا وَوَارَاهُ، لِبَاسًا لَهُ وَكُسْوَةً، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّابِغَةِ الْجَعْدِيِّ‏:‏

فَـالْحَمْدُ لِلَّـهِ إِذْ لَـمْ يَـأْتِنِي أَجَـلِي *** حَـتَّى اكْتَسَـيْتُ مِـنَ الإسْـلَامِ سِرْبَالًا

فَجَعَلَ الْإِسْلَامَ-إِذْ غَطَّى الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ فَوَارَاهُ وَأَذْهَبَهُ- كُسْوَةً لَهُ وَسِرْبَالًا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏259‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏ ‏[‏259‏]‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ‏}‏، فَلَمَّا اتَّضَحَ لَهُ عَيَانًا مَا كَانَ مُسْتَنْكِرًا مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ وَعَظَمَتِهِ عِنْدَهُ قَبْلَ عَيَانِهِ ذَلِكَ‏.‏ ‏(‏قَالَ‏:‏ أَعْلَمُ‏)‏ الْآنَ بَعْدَ الْمُعَايَنَةِ وَالْإِيضَاحِ وَالْبَيَانِ‏.‏ ‏{‏أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏‏.‏

ثُمَّ اخْتَلَفَتِ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ‏}‏‏.‏

فَقَرَأَهُ بَعْضُهُمْ‏:‏ “قَالَ اعْلَمْ “ عَلَى مَعْنَى الْأَمْرِ بِوَصْلِ “ الْأَلِفِ “ مِنْ “ اعْلَمْ“، وَجَزْمِ “ الْمِيمِ “ مِنْهَا‏.‏ وَهِيَ قِرَاءَةُ عَامَّةِ قَرَأَةِ أَهْلِ الْكُوفَةِ‏.‏ وَيَذْكُرُونَ أَنَّهَا فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ‏:‏ “قِيلَ اعْلَمْ “ عَلَى وَجْهِ الْأَمْرِ مِنَ اللَّهِ الَّذِي أُحْيِيَ بَعْدَ مَمَاتِهِ، فَأُمِرَ بِالنَّظَرِ إِلَى مَا يُحْيِيهِ اللَّهُ بَعْدَ مَمَاتِهِ‏.‏ وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏.‏

حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ التَّغْلِبِيُّ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ سَلَامٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنْ هَارُونَ، قَالَ‏:‏ هِيَ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ‏:‏ “قِيلَ اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ “ عَلَى وَجْهِ الْأَمْرِ‏.‏

حَدَّثْنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا مُعَمِّرٌ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ أَحْسَبُهُ، شَكَّ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ، سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقْرَأُ‏:‏ “فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ اعْلَمْ “ قَالَ‏:‏ إِنَّمَا قِيلَ ذَلِكَ لَهُ‏.‏

حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، قَالَ‏:‏ ذُكِرَ لَنَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، أَنَّهُ قِيلَ لَهُ “ انْظُرْ “‏!‏ فَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ يَتَوَاصَلُ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، وَذَلِكَ بِعَيْنَيْهِ، فَقِيلَ‏:‏ “اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ“‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَأْوِيلُ ذَلِكَ‏:‏ فَلَمَّا تَبَيَّنَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ، قَالَ اللَّهُ لَهُ‏:‏ اعْلَمِ الْآنَ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏.‏ وَلَوْ صَرَفَ مُتَأَوِّلٌ قَوْلَهُ‏:‏ “قَالَ اعْلَمْ “-وَقَدْ قَرَأَهُ عَلَى وَجْهِ الْأَمْرِ- إِلَى أَنَّهُ مِنْ قِبَلِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ بِمَا اقْتَصَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ قِصَّتِهِ كَانَ وَجْهًا صَحِيحًا، وَكَانَ ذَلِكَ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ‏:‏ “اعْلَمْ أَنْ قَدْ كَانَ كَذَا وَكَذَا“، عَلَى وَجْهِ الْأَمْرِ مِنْهُ لِغَيْرِهِ وَهُوَ يَعْنِي بِهِ نَفْسَهُ‏.‏

وَقَرَأَ ذَلِكَ آخَرُونَ‏:‏ ‏(‏قَالَ أَعْلَمُ‏)‏، عَلَى وَجْهِ الْخَبَرِ عَنْ نَفْسِهِ لِلْمُتَكَلِّمِ بِهِ، بِهَمْزِ أَلْفِ “ أَعْلَمُ “ وَقَطْعِهَا، وَرَفْعِ الْمِيمِ، بِمَعْنَى‏:‏ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ وَعَظِيمِ سُلْطَانِهِ بِمُعَايَنَتِهِ مَا عَايَنَهُ، قَالَ الْمُتَبَيِّنُ ذَلِكَ‏:‏

أَعْلَمُ الْآنَ أَنَا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏.‏

وَبِذَلِكَ قَرَأَ عَامَّةُ قَرَأَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، ‏.‏ وَبَعْضُ قَرَأَةِ أَهْلِ الْعِرَاقِ‏.‏ وَبِذَلِكَ مِنَ التَّأْوِيلِ تَأَوَّلَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَمَّنْ لَا يَتَّهِمُ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ‏:‏ لِمَا عَايَنَ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ مَا عَايَنَ، قَالَ‏:‏ ‏{‏أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ مَعْقِلٍ أَنَّهُ سَمِعَ وَهْبَ بْنَ مُنَبِّهٍ يَقُولُ‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ‏:‏ بِعَيْنِ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-يَعْنِي إِنْشَازَ الْعِظَامِ- فَقَالَ‏:‏ ‏{‏أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرٌو، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ‏:‏ قَالَ عُزَيْرٌ عِنْدَ ذَلِكَ-يَعْنِي عِنْدَ مُعَايَنَةِ إِحْيَاءِ اللَّهِ حِمَارَهُ- ‏{‏أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو زُهَيْرٍ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَاكِ، قَالَ‏:‏ جَعَلَ يَنْظُرُ إِلَى كُلِّ شَيْءٍ مِنْهُ يُوصَلُ بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ، ‏{‏فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، نَحْوَهُ‏.‏

وَأَوْلَى الْقِرَاءَتَيْنِ بِالصَّوَابِ فِي ذَلِكَ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ‏:‏ “اعْلَمْ “ بِوَصْلِ “ الْأَلِفِ “ وَجَزْمِ “ الْمِيمِ “ عَلَى وَجْهِ الْأَمْرِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِلَّذِي قَدْ أَحْيَاهُ بَعْدَ مَمَاتِهِ، بِالْأَمْرِ بِأَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ الَّذِي أَرَاهُ بِعَيْنَيْهِ مَا أَرَاهُ مِنْ عَظِيمِ قُدْرَتِهِ وَسُلْطَانِهِ، مِنْ إِحْيَائِهِ إِيَّاهُ وَحِمَارَهُ بَعْدَ مَوْتِ مِائَةِ عَامٍ وَبَلَائِهِ، حَتَّى عَادَا كَهَيْئَتِهِمَا يَوْمَ قَبَضَ أَرْوَاحَهُمَا، وَحِفْظِهِ عَلَيْهِ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ مِائَةَ عَامٍ حَتَّى رَدَّهُ عَلَيْهِ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ وَضَعَهُ غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ-عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَادِرٌ كَذَلِكَ‏.‏

وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا قِرَاءَةَ ذَلِكَ كَذَلِكَ وَحَكَمْنَا لَهُ بِالصَّوَابِ دُونَ غَيْرِهِ‏;‏ لِأَنَّ مَا قَبْلَهُ مِنَ الكَلَامِ أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ قَوْلًا لِلَّذِي أَحْيَاهُ اللَّهُ بَعْدَ مَمَاتِهِ، وَخَطَابًا لَهُ بِهِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا‏}‏، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ ذَلِكَ جَوَابًا عَنْ مَسْأَلَتِهِ رَبَّهُ‏:‏ ‏{‏أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا‏}‏ ‏!‏ قَالَ اللَّهُ لَهُ‏:‏ “اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ “ الَّذِي فَعَلَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ عَلَى مَا رَأَيْتَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَشْيَاءِ قَدِيرٌ كَقُدْرَتِهِ عَلَى مَا رَأَيْتَ وَأَمْثَالِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِخَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ أَنْ أَجَابَهُ عَنْ مَسْأَلَتِهِ إِيَّاهُ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى‏}‏ ‏{‏وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ‏}‏‏.‏ فَأَمَرَ إِبْرَاهِيمَ بِأَنْ يَعْلَمَ، بَعْدَ أَنْ أَرَاهُ كَيْفِيَّةَ إِحْيَائِهِ الْمَوْتَى، أَنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ‏.‏ فَكَذَلِكَ أُمِرَ الَّذِي سَأَلَ فَقَالَ‏:‏ ‏{‏أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا‏}‏‏؟‏ بَعْدَ أَنْ أَرَاهُ كَيْفِيَّةَ إِحْيَائِهِ إِيَّاهَا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير‏.‏